قابعة على حافة سريرها، تُقلّب صفحات رواية "برهان العسل"، تلك الرواية التي ثار حولها الجدل أكثر مما قُرئ عنها؛ لم تكن تعلم إن كانت تبحث عن نهاية مختلفة في الكتابٍ، أم بداية جديدة لنفسها، وفجأة لفت انتباهها
سطر:"أكبر لذّة بعد الحب هو الحديث عنه"توقفت. وضعت الكتاب في حجرها، ونظرت إلى الفراغ بين أصابعها، كأنها تحاول القبض على ظلّ شعور ضاع منها منذ زمن.
متمتمة ومُهمهِمة، متسائلة:
"الحديث عن الحب؟ لذّة؟ بعد ماذا؟ بعد موت الحلم؟
ومع ذلك، أدركت أنها كانت محقّة؛ الكاتبة، السطر، الفكرة... كلّها أصابت وجعها. صدقت لأنها لم تعرف الحب كما تصفه الروايات، ولم تعشه كما يتمناه الناس. لم يمسك يدها أحد في الطرقات تحت المطر، ولم يهديها أحد وردة في صباح عادي. كانت تعرفه فقط حين تنزف على الورق.كل ما تعرفه عن الحب، كان في لحظة الكتابة. وجُلّ ما شعرت به، جاء من الكلمات لا من قلبها. في داخلها ظلمة لا يراها أحد، ووحدة تأقلمت معها حتى صارت نمطا لحياتها، امرأة مهجورة، فاقدة للشغف، تكتب لا من نشوة، بل من وجع... تحاول طرد العجز بالعبارات، وتنازع الحزن بالجُمل.
ذاك الشاعر الذي ظنّت أنها أحبته، لم يكتب عنها إلا حين ارتوى منها؛ أما هي فكانت تكتب عنه من جرحٍ لم يندمل.
أحسّت بالغدر؛ فهي بالنسبة له مادة خامة وملهمة،
لكنّه لم يرَ فيها سوى وقودٍ لنصوصه، لا قلبًا أحبّه ولا روحًا منحته ذاتها، كتبت عنه بصدق، وكتب عنها بدهاء، لا تذكر متى شعرت بالحب، لا قبله ولا بعده،فهو قد مسح كل شعور جميل، وكل تصوّر وردي، وكل حلم بسيط. ربما لأنها لم تشعر به أبدًا، قلبها موصد منذ سنين، تعيش خلف جدران من الألم، ترى ولا تُرى. امرأة تحمل في داخلها شخصين... أحدهما يصرخ، والآخر يصمت. أحدهما يتوق للحب، والآخر يخافه كفخّ قاتل، وذات مساء، كتبت له:
"أحببتك كما لم يفعل أحد من قبل،
بوجهي المكسور،
بروحي التي عانت معك،
بكلماتي التي تنزف على الورق،
كأنني امرأة بلا أصابع... أكتب بدمي وحده.
نزيف عشق..."
لكنها لم تُرسلها.مزّقت الورقة، وألقتها في سلّةٍ ممتلئة بقصائد كاسدة. نظرت إلى ساعتها المتيبسة فوق معصمها، نهضت بهدوء، فتحت الدرج السفلي في خزانتها، وأخرجت صندوقًا بُنّيًا صغيرًا، جلست على الكرسي المقابل لمكتبها المهترئ... وضعت يدها اليسرى، بسكين جراحي،
بدأت تقطع أصابعها... واحدًا تلو الآخر.
بلا صوت.
بلا دموع.
بلا ندم.
وحين انتهت، غمست ريشة قديمة في الدم، تلك التي أهداها لها حين كانا يعيشان معًا في ذروة العشق والولع، فجعلها كاتبة مثله، وكتبت بيدها اليمنى على حائط غرفتها:
"الآن فقط، أستحق أن أكون امرأة بلا أصابع...
لأنني، حتى لو استطعت أن أكتب،
لن أكتب له بعد اليوم،حتى وإن تطلّب مني الأمر التخلّص من أصابعي اليمنى“
ثم نظرت إلى يدها اليسرى المرتجفة، النازفة...
واختارت أن تتركها شاهدةً فقط، لا شريكة في الخيانة.