"لكن مازلت أرغب أن أكون بحرًا لا بركة آسنة. لا أريد أن يملكنى أحد، وليتنى لا أملك أحدًا، الكل يريد أن يضع ختمه علي، وأنا أريد أن أظل طليقة بلا صدري.. هذا هو الفناء..إنى أفنى فيك، وأنى أولد جيدا فى فنائي".
ضمن عروض مهرجان ايزيس الدولي لمسرح المرأة ، قدم عرض"المصائر"عن نص الكاتب المسرحي الكبير سعد الله ونوس "طقوس الإشارات والتحولات" ، لم يكن عرضا خياليا ولا حمل من الفانتازيا شيء ،بل كان عن قصة واقعية حدثت في دمشق تدور أحداث العرض فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وتحديدًا فى عهد الوالى ناشد راشد باشا فى سوريا، إذ اشتد الخلاف بين مفتى الشام وكبير الأشراف عبد الله، تبدأ الصراعات السياسية والدينية لتكشف عن الرغبات المدفونة تحت عباءة رجال الدين ،ويركز العرض علي التابوهات الثلاثة: السلطة والغواية والدين ، و الصراعات النفسية الناتجة عن كبت الغرائز ،ورغبة رجال الدين والسلطة في الظهور الدائم بصورة مثالية رغم حاجاتهم الإنسانية وقمع غرائزهم حتي الإنفجار.
لكل منا إشاراته التي يتلقفها إذا فطن وإذا أراد ،ولكن التحولات ربما تأتينا تدريجيا أو مفاجأة ، هذا ما حدث لأبطال العرض ،كلا كانت له إشاراته علي اختلافها.
عبد الله نقيب الأشراف أراد أن يستمتع بطريقته الخاصة في الخفاء ،أن يخلع عباءته بكامل إرادته امام غانيته ،بعيدا عن أعين الناس ،حتي كشف أمره واستغله المفتي ليكيد له ويزيحه من السلطة لمصلحته الشخصية ولكن بطريقة تصنع منه رجلا حكيما متعاطفا معه ،ربما أراد أن يضع الفضيحة بالصندوق ويحفظ ماء وجه السلطة أمام العامة ،
فكيف يجعل من أحدهم باغيا فيثير الشكوك حول الجميع!
هكذا كانت الحبكة مقنعة ،حين اقنع المفتي زوجة النقيب أن تجلس في غرفة الحجز مع زوجها بدلا من الغانية حتي تنقذه ،هنا جاءت الإشارة للزوجة "مؤمنة" لكي تجد الفرصة للخلاص من زوج خائن ومن حياة كبت وإزدواجية عاشت بها منذ طفولتها .
موافقة "مؤمنة" بداية تحول لها كما كان كشف أمر "النقيب" وحبسه إشارة له وبداية تحول ، تأتي التحولات مفاجئة والإشارات تختار من يصدقها ،ومع خروج "النقيب" من الحبس وجد نفسه محبوسا داخله ،داخل رغبة في الخلاص والتخلص من الذنب والعار معا ،لم يجد ملجأ إلا السير نحو التصوف حيث بدأ طريقا شاقا بدايته العزلة ونهايته الجنون !
أما "مؤمنة" فلم تكن ترغب سوى تحررا لجسدها المحبوس بعباءتها سنوات طويلة ، لتطلق روحها بلا قيود ،فمنذ طفولتها تري والدها رجل الدين الملتزم صاحب الهيبة وسط الجميع وهو يراود العاملات عن أنفسهن بالمنزل حتي وإن كنا صغيرات بالخفاء ،وبرغم من ذلك هو الأب المعلم والمربي علي الدين والأخلاق ،مما خلق تناقضا لا شعوريا داخلها جعلها تنتظر فرصة للثأر من جميع التناقضات والخيانات بحياتها ،فبعد طلاقها من "النقيب"تحولت من "مؤمنة"ل "الماسة" لتصبح غانية تنافس جميع الغواني بما فيهن "وردة" غانية زوجها .
شخصية "مؤمنة" أو "الماسة" صرخة نسوية في وجه ازدواجية التربية ،والقمع النفسي ،ترجمة فورية ومنطقية لواقع عاشته وكبت مُورس عليها حتي مارست هي تحُولها فأصبحت رمزا للغواية.
أما "وردة" البغي المتورطة مع "النقيب" كانت هي الأخري ضحية من ضحايا والد "مؤمنة" ، الضحايا يصبحن مجرمات إذا لزم الأمر!
الحوار الأخير بين "وردة" و"النقيب" يكشف وجعا داميا في صدر "وردة" لم تكن تريد سوى رجلا يحبها بصدق حتي وإن كان يمارس ذلك الحب بالخفاء ،وعندما تفلت ذلك الحب منها وأصبح مجرد نزوة وعار يلاحقه، لم تستطع إلا أن تصرخ رافضة تلك الإشارة والتحول ذاك!
"المفتي" شخصية تمثل الدين ،عباءته البيضاء ذات الطبقات المتعددة ،لم تكن طبقة واحدة ،بل كثفها حماية له من ريح الغواية ، حتي تكشفت عورة شهوته بعد أن فاض به عشقه ل"الماسة" الغانية العائدة من عباءة الدين ،تناقضات لا يرفضها العقل فكل شيء قابل للتحول فقط ينتظر الإشارات!
خلع "المفتي"عباءاته البيضاء الطبقة تلو الأخري حتي ظهر برداء أحمر بلون غريزته المتوهجة المكبوتة ،وكأنها مستعرة منذ سنوات ، بعد أن مارس كل الضغوط علي "الماسة"لكي توافق علي زواجها منه ،حتي أنه أصدر فتوي بإهدار دمها ، ومع عدم اكتراثها بالحكم ،تراجع عن فتوته راكعا بين يديها
طالبا منها الوصال مهما كلفه الأمر ،ولكن الثمن كان باهظا ،فالتخلي عن هيبة السلطة تحول مرعب وإن كانت إشارته متوارية.
السلطة ،الغواية،الدين ثلاثة طقوس قابلة للإشارات والتحولات ،عالجها النص بمزيج بين اللغة العربية الفصحي والعامية ،ربما أراد الكاتب إسقاطا معاصرا لدائرة الأحداث بلا قيد لزمن محدد .
سينوغرافيا العرض لم تكن بالثراء اللائق بعبقرية النص ، الإضاءة كانت أقرب للعشوائية ،التنقل بين الألوان لم يعط تعبيرا جيدا للشخصيات أو الحالات ،الديكور كان بتيمات الطراز الدمشقي ولكن كان يحتاج أن يكون أفخم من ذلك، موسيقي العرض عنصر جيد بإعداد واعي لاحتياجات العرض سواء من إختيار أغاني من التراث أو موسيقي .
الأزياء كانت جيدة ومناسبة لشخصيات العرض مع توظيف جيد للألوان و الطبقات.
عنصر الأداء كان مميزا بكل طاقم العمل أجادت دنيا المنياوي دور "الماسة" بتطوراتها النفسية المعقدة .
كذلك عاليا الحقباني قامت بدور "وردة" واستطاعت أن تظهر جوانب شخصيتها دون ابتذال.
قام بدور "المفتي"محمد الحضري بحضور قوي وتمكن كامل من الشخصية ،كما أنه المعد للموسيقي.
أحمد يسري لعب دور "النقيب" في رحلته من الذنب الي التصوف ،تصاعد درامي مميز وانفعالات منضبطة غير متكلفة.
"الأب" قام به مصطفي الغمريني ورغم بساطة الدور إلا أنه استطاع أن يترك بصمة ،كذلك "الوالي"رمزا اخر للغواية والهداية الزائفة معا ،لم يكن أقل تمكنا فقام به عبدالله الشناوي.
"المصائر" من "طقوس الإشارات والتحولات" إخراج سارة نجم ،توظيف جيد لطاقات الممثلين ورؤية وتصاعد درامي جيد .
"اهمل بدنك حتي يتراكم عليه الوسخ عفر وجهك ومرقعتك حتي يذريك من يراك ثم ادخل إلي حيك الذي تعظم فيه فيراك اصحابك ويسقط باللوم جاهك ويلاحقك الصبيه بالترقيع و السخرية ثم كرر النداء ..
سعيد من يرقي المقامات ويصل إليه فيفني في غبطته."
ربما تكون تلك إشارة أخري لتحول جديد!





































