في إطار الإعلان عن جوائز مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي ،فاز العرض المصري "الجريمة والعقاب" من إخراج عماد علواني وبطولة عبدالله سعد ،نغم صالح ،و كريم ادريانو.
العرض عن رواية "الجريمة والعقاب" للكاتب و الفيلسوف الروسي "دوستويفسكي" والتي تعتبر من أهم الرواياته التي كتبها في فترة نضوجه الفني ،كما تصنف واحدة من أعظم الأعمال الأدبية عبر التاريخ .
ناقش العرض عدة نظريات إجتماعية فلسفية وأخلاقية معقدة ،مثل العدمية وآثار الجريمة علي النفس البشرية والصراع النفسي الناتج عنها، كذلك ناقش أفكار الإشتراكية وفند لها و نقدها ، حيث تبني "دوستويفسكي" بعض تلك الأفكار خلال مرحلة من مراحل حياته حتي إنه تعرض للمحاكمة و كاد أن ينفذ فيه الإعدام، قبل أن يتم العفو عنه ونفيه إلي سيبيريا ،و هناك احتك ببعض المسجونين في قضايا قتل بشعة ،مما جعله يتراجع عن أفكاره الإشتراكية وانفعالا بتلك الفترة وأحداثها ،كتب روايته تلك.
"الجريمة و العقاب" هذا العرض ركز أيضا علي فكرة انقسام البشر لنمطين، حسب مقال كتبه بطل العرض "روديون راسكولينيكوف" الطالب الفقير المعدم ، فهم من وجه نظره "عاديون"و "غير عاديين" ، فنعت العاديون بأنهم المهملون المهمشون المعاقبون علي أقل فعل ،أما الغير عاديين أو الاستثنائين، فهم أصحاب العقول والمناصب والقادة ،مرفوع عنهم القلم ،لهم حرية التصرف دون محاكمات، و استشهد بنايليون كمثال ،فهل رأي في نفسه نابليون ليفعل ما فعل؟!
تمحورت أحداث العرض حول جريمة قتل السيدة المرابية القاسية "أليونا" ،حيث إنها كانت تقرض جيرانها من الفقراء القليل من النقود مقابل أن يبيعوا لها أشياء ثمينة أو أن يردوا لها الأموال مضاعفة فتستغلهم بذلك ،كانت تحظي بكراهية الجميع و منهم "راسكولينيكوف" الطالب الذي باع لها اشياءه القيمة مقابل سعر ذهيد وقد رأي الأموال مخبأة بدرج لديها .
لم تكن حاجته للمال هي المحرك الرئيسي لارتكابه جريمة القتل ،بل أنها دوافع مكبوتة، نتاج تراكمات نفسية تكونت خلال مقابلته لعدة شخصيات بحياته ،أعتقد أن من أهم تلك الشخصيات هي أمه، تلك العجوز التي ترسل له أغلب معاشها لتعينه علي قسوة حياته ، شفقة بها فعل جريمته،و ذلك العجوز السكير "سيمون مارميلادوف" من أرسل ابنته الكبري"سونيا" لتتاجر في نفسها مقابل المال ،برغم استنكاره وضعفه أمام ذلك الفعل، و"سونيا" البغي المتدينة ،المحرك الأساسي في حياته من أربكت لديه أفكاره وأشعلت الصراعات بداخله ، بين العدمية والإيمان ، الرغبة في الانتحار وقرار الخلاص ، إنكار الذنب والعذاب به.
كل تلك المتناقضات كانت المحرك الأساسي للعرض،فتم استعراضها من خلال مجموعة تحقيقات متنوعة بين الحقيقي والخيالي والاستعراضي، بين الطالب والمحقق الساخر "بتروفيتش"، الذي كان عنصرا ضاحكا بالعرض مما كسر حدة الأحداث ،ومرورا بشخصية الفتاة الطيبة صاحبة الحالة الخاصة "إليزافيتا" الأخت الصغري للعجوز المرابية ،تلك الشخصية حملت رمزا للمعاناه الصامتة، بسؤالها الطالب عن والد جنينها من يكون ،ومدافعتها عن أختها القاسية بأنها تضربها تأديبا لها وحبا فيها، تكرارها لكلمة "أنني لست وحدي " مشيرة لبطنها حيث الجنين، حالة من الشجن و العذاب النفسي المضاعف ،عند تورطه في قتلها لكشفها جريمة قتل أختها .
"الجريمة والعقاب" هنا حملت أفكار العدمية و الإيمان ،و مفهوم الخلاص بالاعتراف والتطهر ،لم يكن"راسكولينيكوف" ملحدا ولا كامل الإيمان ، كان سائرا برحلة البحث عن معتقد سليم ،قراءته للكتاب المقدس ثم خوفه منه ،واختياره لقصة "لعازر "بالانجيل الرابع لم يكن عبثا ، حيث تتناول تلك القصة نصا يقول:
"فمريم لما أتت إلى حيث كان يسوع ورأته، خرت عند رجليه قائلة له: يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي"
اسقاطا علي تساؤلات "راسكولينيكوف "حول أين يوجد الإله من كل هذا الظلم! الفقر، العوز، الاحتياج، أناس يخطئون دون محاكمة،وآخرون متروكون لغول الفقر يلتهمهم دون مبالاة ولا رحمة .
محاكمة نفسية لقضية الإيمان تخلُص لضرورة الإعتراف بالذنب ،بدلا من حمله سرا فيكون هو العقاب الحقيقي للجريمة ،هنا الجريمة ليست فعل ولكنها محاكمة نفسية لابد من خلاص لها..
تكاملت عناصر العرض لتليق بروعة النص و عمقه ،صمم الديكور هشام عادل ،اشعار محمود البنا ، موسيقي محمد علام، ملابس رحمة عمر ،ماكياج روان علاء، تصميم استعراض مناضل عنتر.،إعداد مسرحي مارلين كامبل وميرا كولومبوس
"الجريمة والعقاب" صراع نفسي يصنع فلسفة الواقع ،فبرغم إنتهاء العرض،لم تنته الأحداث!





































