منذ أن بدأت أفكاره تتبرعم ببطء، كان يجد متعة غريبة في انتقاء الألوان.
يقف طويلا أمام لوحة لم يرسمها بعد.
كأنها تنتظره لتبوح له بظل جديد.
أو تهمس بأسرار لا يعرفها إلا قلبه.
يعتني بالورد كأنه يحرس آخر ما تبقى من قلبه.
يشتم رائحته الفواحة، يلمس أوراقه الرقيقة بين أصابعه.
يقلم الأشجار كما لو كان يقص عن حياته الفصول الثقيلة على روحه.
ثم يبتسم لنفسه بصمت، مستغربا قوته في الإبداع… الذي لا يراه أحد.
وذات يوم، حين عرض أولى محاولاته على عابر لا يعرفه، اكتفى الرجل بابتسامة باردة وعبارة عابرة:
"ربما جميل… لكن ليس مفهوما."
كانت تلك الجملة كافية لتشعر شرارة قلبه الصغيرة بالارتعاش.
وكأن اللوحة قد رمت بخيالها في وجهه، وصوت الفرشاة المختفي صرخ في صمته.
في زمن تتعالى فيه الأصوات الخشنة على همس الجمال، اختلطت الألوان التي يعشقها بألوان الرذالة.
امتلأت موائد الذوق بأطعمة البذاءة.
انسحبت صفحات البراءة من الحياة، كما تنسحب نجمة خجولة من فجر لم يعد ينتظرها أحد.
ظل صامتا، يتلمس شرارته الداخلية.
متشبثا بجمال لا يعرفه إلا هو.
سمع صدى ريشة الفرشاة في أذنه، ورأى ألوانه تتراقص في الظل.
وفي اللحظة التي ظن فيها أن صمته سيبتلعه، اكتشف أن الفنان لا يخسر حين لا يفهم.
بل حين يتخلى عن وميضه الذي يسكنه.
الفن لا يحتاج جماعة تصفق.
يحتاج قلبا واحدا فقط، قلب يجرؤ على أن يرى ما لا يراه الآخرون.
ثم ترك له صمت اللوحة يهمس له:
كل شيء يبدأ من هنا، من شرارة بلا صدى.
من قلب يصغي…
ويرسم في الظل ما لا يراه إلا من يحلم.
لمس الفرشاة، شم ألوانه، شعر بنبضات قلبه تتماهى مع اللوحة، وصار كل شيء صامتا، لكنه مكتمل.






































