كان يجلس في المقهى كأن الزمن نسيه هناك؛ لا يغير جلسته ولا نبرته الصامتة، حتى بدا الهواء من حوله أجرأ منه على الحركة.
كانوا يحيونه بوقار غريب، كأنهم يخشون أن يسقط منه غبار التاريخ لو اقتربوا أكثر.
يهمس أحدهم بثقة العارف:
"لا تزعجوه… هذا آخر رجل ما زالت أفكاره بصيغتها القديمة."
لكن تلك الأفكار لم تكن أصيلة؛ كانت محنطة، ملفوفة بخوف اعتاد أن يقدم على أنه مبدأ.
وفي مساء طافح بالحديث عن المستقبل، صدر منه صوت خافت
انكسار صغير، كأنه حدث داخل عظم لا داخل جسد.
لم يلتفتوا إلا عندما سقط كوبه بلا مقاومة، واهتز الخشب تحته كارتجافة أخيرة.
اقتربوا بحذر.
من جيبه انزلقت قصاصة، كتب عليها بخط مبلل بالوقت:
توقفت لأثبت نفسي… فمر الجميع من حولي."
نظروا إلى بعضهم، ثم أطلق أحدهم ضحكة قصيرة:
"لا تخافوا… إنه لا يموت. فقط يعيد تشغيل نسخته القديمة."
عادوا لكلامهم، وعاد هو إلى صمته
لكن صمته هذه المرة لم يكن سكونا، بل انسحابا نهائيا من احتمالات الحياة.
وهكذا بقي هناك…
الرجل الذي لم يمت، لأن الزمن لم يجد في موته حدثا يستحق الوقوف عنده.






































