في زاوية مهجورة من المدينة، حيث تختلط أنقاض الحاضر بأطياف الماضي، يوجد مكان لا يشبه القاعات، ولا تحمل جدرانه إلا صمت الشهداء وعبق المسك.
هنا تحكى الحكايات الأخيرة لأولئك الذين بذلوا دماءهم كي تبقى الحياة والنور،لتتحدث الأكفان
وتهمس الأرواح، و ليعود الأمل من بين الغيم.
الليل ينسحب ببطء عن القاعة.
الجدران ناصعة كبياض الفجر،
و رائحة المسك تسبح في الهواء كأنها وعد قديم يتهيأ للعودة.
في الخارج، صوت مؤذن بعيد يوشك أن ينادي، لكن النداء لم يكتمل بعد.
الحارس العجوز دفع الباب الحديدي بخطوات واثقة رغم رجفة خفيفة في يده. لم يكن خائفا، بل موقرا كمن يدخل معبدا من الأرواح.
قال في سره:
"هنا يسكن من صاغوا الوطن من دمائهم، و لم يطالبوا بغير النور مكافأة."
القاعة تمتد كصمت عظيم، تصطف فيها النعوش البيضاء كصفوف صلاة مؤجلة.
وعلى كل واحد منها اسم يتلألأ، لكن العجوز أقسم أن الأسماء تتبدل كل ليلة، كأن الشهداء يتناوبون على الذاكرة حتى لا تنسى.
اقترب من أحد النعوش وهمس:
– جئت أعتذر… ما زالوا يقصفون الحلم كل صباح.
تحرك الغطاء ببطء، وانبعث منه نور دافئ كنبض يفيض بالحياة.
تجلى شاب بعينين من لهب وطمأنينة، وقال بصوت يلامس القلب:
– لا تعتذر يا شيخنا. نحن لم نمت… فقط عبرنا.
ساد الصمت لحظة، ثم خرجت أرواح أخرى كأن القاعة تنفست أخيرا.
جلست الأرواح على الأرض، تتبادل الحكايات كما يتبادل المسافرون ذكريات الطريق.
قالت امرأة يحيط وجهها وهج سماوي:
– كنت أحمل طفلي حين اخترقنا اللهب. لم أصرخ، لأنني رأيت وجهه في الجنة قبل أن يسقط جسدي. الآن ألعب معه بين الغيم، ونضحك كلما سمعناكم تغنون للحياة.
وتقدم رجل بثوب بسيط كخباز خرج لتوه من حلمه:
– لم أكن مقاتلا، كنت أحمل الخبز للناجين. لكن الرصاصة تعرف الطريق دائما إلى الصادقين. حين سقطت، احتضنتني الأرض وقالت: "نم قليلا، فالفجر اقترب."
تداخلت الأصوات كأن كل حكاية تشعل أخرى.
كان الضوء يتكاثف، والهواء يفيض بعطر سماوي.
جلس الحارس يبكي، لا حزنا، بل لأن قلبه امتلأ من الطهر أكثر مما يحتمل بشر.
ثم ارتفعت الأصوات في تناغم عجيب، كأن الأرواح تؤدي نشيدا لم يكتب بعد:
"لا تبكوا علينا… نحن الغيم الذي يسقيكم بالنور، و الجدار الذي يستند إليه الأمل.
احملوا وجعنا كراية لا كجرح، فالليل وإن طال يلد فجرا من رحمنا."
توقف كل شيء فجأة.
صمت مهيب تلاه نور أبيض اخترق الجدران.
وفي الأفق، اكتمل صوت المؤذن الذي سمعناه ، يهتف هذه المرة بوضوح سماوي:
"قد قام النصر…"
رفع الحارس رأسه، فرأى النعوش خالية، والأرض مبللة بعطر لم تعرفه الدنيا من قبل.
ابتسم وقال وهو يغلق الباب برفق:
"لقد عادوا… لكنهم عادوا نورا."
ثم غاب في العتمة، وصدى صوته يهمس في القاعة التي ما زالت تتوهج:
من الموت ولدوا… كي لا يموت الوطن.





































