تدفّق المتظاهرون إلى الساحة، يهتفون للحرية ويرفعون رايات فلسطين عالياً. وسط هذا الصخب المشتعل، جلس مجنونان على الرصيف، كأنهما يحاكمان التاريخ بعيون لا تعرف الخوف من الزيف.
الأول، يحمل دفترًا ممزقًا وحبرًا أحمر، كتب بحروف غاضبة:
"قالوا إن فلسطين لم تكن هنا أبدًا، وأن الذين وُلدوا فيها ضيوف عابرون، بينما الغرباء هم أصحاب البيت منذ الأزل."
ضحك الثاني، وصفّق كما لو كان يسمع نكتة مرّة، وأضاف:
"وفي كتبهم المقرّرة، هبطت حمامة من الغرب تحمل خريطة، وأعلنت أن الأرض لمن يحفظ التوراة دون أن يتثاءب، أما من يعيش هنا منذ قرون فهو مجرد زائر!"
اقترب بعض المتظاهرين بدهشة، كان الفضول أقوى من الشعارات التي يهتفون بها.
قال أحدهم بغضب:
– "فلسطين عربية، لا تحتاج إلى عبثكما!"
رفع الأول رأسه ببطء، وابتسم بسخرية هادئة:
– "صدقت… لكنها صارت بحاجة إلى شهادة ميلاد، بعدما أقنعوا العالم أن العربي يحتاج إلى إثبات نسبه في بيته."
ضحك الثاني وأضاف:
– "صار السؤال اليوم: هل القدس عربية؟ مثل السؤال: هل الماء مبلول؟"
ساد صمت ثقيل، ثم ارتفعت أصوات المجانين معًا:
– "كفى! التاريخ ليس لأقلامٍ مزوّرة، ولا لضحكاتٍ صامتة! نحن هنا لنروي الحقيقة، حتى لو كانت تبدو جنونًا!"
تردّد صدى كلماتهم في الساحة، ارتجف الهواء حول الحضور، وعاد الضحك المرير مختلطًا بالدهشة والوعي، كأن الزمن كله توقّف لحظة ليُصغي.
كتب الأول السطر الأخير بخط مرتجف:
"وفي النهاية، انتصر التاريخ… لا لأنه كُتب بالحبر، بل لأن المجانين رفضوا أن يُمحى."
أغلق الدفتر، وقف إلى جانب رفيقه، ورفعا أصواتهما مع الجموع التي عادت تهتف من جديد:
– "فلسطين عربية… حتى في كتب الجنون."





































