لم يكن أحد يصدق أن أسامة، الشاب الهادئ ذو الملامح الواثقة، يخاف من الظلام.
في الثانية والثلاثين من عمره، كان ناجحا في عمله، محبوبا بين زملائه، لكنه يحمل سرا ثقيلا لا يبوح به لأحد.
رهاب يطارده كظل لا يفارقه — خوف من الظلام، والأماكن الضيقة، والمرتفعات.
ثلاثة أعداء خفية، تسكن ذاكرته وتنهش صمته
بدأ كل شيء في طفولته، حين كان في التاسعة من عمره.
انقطعت الكهرباء في العمارة، وعلق بالمصعد وحيدا بعد عودته من المدرسة.
صرخ حتى بح صوته، ودق على الأبواب الحديدية بلا جدوى.
كانت الجدران تضيق عليه شيئا فشيئا، حتى خيل إليه أن الظلام يبتلعه.
وحين أخرجه رجال الإطفاء، وجدوه فاقد الوعي، ممسكا بحقيبة المدرسة كأنها طوق نجاة.
منذ تلك الليلة تغير كل شيء.
لم يعد يدخل المصاعد، ولا الأنفاق، ولا ينام إلا والنور مشتعلا.
وكلما حاول أحد علاجه، كان يضحك قائلا:
"أنا بخير، فقط لا أحب العتمة."
لكن قلبه كان يعرف أنه ليس بخير.
فثمة طفل صغير ما زال يصرخ في الداخل، ولم يسمعه أحد
في صباح عادي في الشركة، كان أسامة يراجع المخططات مع زميله سليم، صديق الطفولة ورفيقه في الخوف والضحك.
قال له سليم وهو يبتسم بخفة
"ما زلت تتفادى المصاعد يا بطل؟"
ضحك أسامة بخفة مصطنعة:
"ليست مصاعد… إنها مقابر عمودية."
ثم أضاف بصوت خافت:
"يوما ما سأتغلب على هذا... فقط ليس اليوم."
سليم لم يعلق، لكنه شعر أن في داخله معركة مؤجلة منذ الطفولة
جاء المساء، وانتهى الاجتماع في الطابق العاشر من البرج الجديد.
كانت الرياح تصفع الزجاج، والسماء تمطر بغزارة.
وحين غادر الجميع، وقف أسامة أمام المصعد مترددا، وصدى خوفه القديم يهمس في أذنه.
ثم قال في نفسه:
"الليلة فقط... أريد أن أجرب النور دون أن أهرب."
ضغط الزر، ودخل مع مجموعة من الناس
انغلق الباب ببطء... كأن العالم قرر أن يختبره أخيرا.
في منتصف الطريق، انقطعت الكهرباء.
اهتز المصعد بعنف، وغمره ظلام مطبق.
صرخ أحدهم، وانفجر الطفل بالبكاء، وسقطت الحقيبة من يد المرأة المسنة.
الهواء بدأ يثقل، والقلوب تخبط كطيور مذعورة.
جسده يرتجف، وصدره يضيق، والمشهد نفسه يعود من عمق الذاكرة — الظلام، الحديد، الصمت، والرعب.
لكن هذه المرة لم يكن وحيدا.
رأى في وجوههم خوفه القديم، وطفله المفقود، وتذكر صوته في تلك الليلة البعيدة.
أغمض عينيه وتمتم:
"كفى يا أسامة... الآن دورك.
بيدين مرتجفتين، تحسس الجدار حتى وجد غطاء الطوارئ.
نزعه بحذر، وأدار المفك المعدني من حقيبته.
قال بصوت ثابت رغم اضطراب أنفاسه:
"اهدؤوا، سنخرج جميعا... فقط اتبعوا صوتي."
لكن ضوء الهاتف انطفأ، وغرق المكان في ظلمة تامة.
لم يعد يرى شيئا، بل لم تعد عيناه تريان إطلاقا.
ومع ذلك، شعر أن بصيرته استيقظت حين أُطفئت عيناه.
استمع إلى الأصوات — أنين المرأة، بكاء الطفل، حفيف الهواء خلف الجدار.
بكل حاسة داخله، بدأ يرسم خريطة النجاة في ذهنه.
مد يده إلى الفتحة المعدنية، رفع الطفل أولا، ثم المرأة، ثم بقية الركاب.
كان يتحرك بثقة عجيبة، كأن شيئا أعمق من البصر يقوده.
وفي لحظة خاطفة، انزلقت قدمه، وتشبث بالحافة بكل قوته.
الحديد يئن، والظلام يبتسم ببرود، والهاوية تفتح فمها تحت قدميه.
سمع صوتا داخليا هادئا، مألوفا كهمس طفولته، يقول له:
"أنا رأيت الطريق... أكمل يا أسامة."
فابتسم رغم العرق والخوف، وصعد ببطء حتى خرج من الفتحة الأخيرة.
وحين خرج آخر جسد من الظلمة، عاد التيار الكهربائي، وغمرت الأنوار الممر.
وقع على الأرض يتنفس بعمق، والناس يحيطون به، والطفل يعانقه وهو يهمس بصوت يشبه صوته القديم:
"أنت فارس الظلام."
في اليوم التالي، نشرت الصحف المحلية خبرا صغيرا:
"مهندس ينقذ خمسة أشخاص من مصعد عالق في ظلام دامس."
لكن لم يعلم أحد أن المنقذ نفسه،
كان قد أنقذ طفلا آخر اسمه أسامة،
دفنه الخوف منذ ثلاث وعشرين سنة…
وأحياه النور أخيرا.
ومنذ ذلك اليوم،
نام والنور مطفأ.





































