إهداء
إلى الأرواح التي غادرت في صمت،
أرواح لم تعرف نهاية الفرح،
انتشلوا من ديار القصدير،
ليواجهوا الخرسانة المزوّرة، الحديد الناقص، والإسمنت المخفف،
ضحايا العبث، والتقصير، والغش الذي أودى بهم قبل أوانهم.
انهيارات
كانت العمارة تلك الليلة كقلب مضاء فوق المدينة، تتنفس ألوان المصابيح الملونة والأشرطة الفضية التي تتلألأ مثل سهام ذهبية تتطاير في الهواء. الأم الأربعينية تلمس الزينة برفق، وكأنها تمسك حلما هشا، والأب الخمسيني يدور مبتسما بين الجيران، يحمل صينية قهوة ترتجف من شدة الفرح. ضحكات الأطفال، أصوات الزغاريد، البالونات التي تهتز على أكتاف الريح، والموسيقى الخافتة، كل شيء ينبض بالفرح… حتى النوافذ المغلقة بدت وكأنها تبتسم بخفية.
لكن خلف هذه البهجة، كان المبنى يحمل صمتا ثقيلا، وذكريات الماضي الحزينة. سكان العمارة بدأوا حياتهم في ديار القصدير البائسة، ليالٍ بلا نوم، أرض رطبة تحت الأقدام، وجدران ترشح الماء وكأنها تبكي على أحلام لم تكتمل. واليوم، في المبنى الجديد المشرق، تختبئ الحقيقة بين الجدران: حديد ناقص، إسمنت مخفف، أعمدة ضعيفة، وورقة مختومة زورا تخفي الحقيقة. الطوابق تبتسم للزائر، لكنها تئن بصوت خفي، كأن المبنى يعرف أن الفرح هنا هش والموت ينتظر اللحظة التي لن يلاحظ فيها أحد.
في البدروم، كان العمال يصبون الخرسانة، والهواء مشبع برائحة الأسمنت الطازج. الخرسانة كانت مخففة بشكل واضح، الحديد ينحني تحت الضغط وكأن المبنى نفسه يتألم. أحدهم توقف للحظة ونظر إلى الخليط وقال بصوت مكتوم:
— "هذه الخرسانة… ليست كما يجب. لو استمروا بهذا الغش، المبنى كله سينهار!"
ابتسم زميله برهة وقال بحذر:
— "أعرف… لكن لا خيار لنا، لقمة العيش تقتضي الصمت."
من أعلى البدروم، المقاول يقف بسيجارة في فمه، يراقب العمل بعينين باردتين ويهمس لنفسه:
— "خفضوا نسبة الإسمنت قليلاً… لا أحد سيلاحظ. الوقت يداهمنا والربح أهم."
تمتم العامل الأول بغضب مكتوم:
— "الربح على أرواح الناس؟"
ابتسم المقاول بلا رحمة:
— "أرواحهم… لا شيء لنا بها. كل شيء يحسب على الورق، ونحن ننجز العمل."
صمت المكان، وأصوات الأدوات تتردد بين الجدران، وكأن الخرسانة نفسها همست لهم: “أنا أعرف ما سيأتي”.
الليل يزداد سكونا، والجميع ينام متأخرا، لا أحد يدرك أن الفرح سيصبح فاجعة. فجأة، اهتزاز خافت تحت القدمين، دوي خافت، سقوط أول قطعة إسمنتية. صرخة امرأة تخترق الهواء:
— "السطح… انهار!"
طفل يلتقط يد أخيه ويهمس برعب:
— "أسرع، أسرع!"
الركام يتساقط، الأشرطة تتمزق، البالونات تهوي، وينطفئ الضوء فجأة… كأن أحدهم أطفأ روح المبنى. المبنى يسقط، والمبنى المجاور ينهار معه في حركة واحدة، كاحتضان نهائي بين جثتين عملاقتين. الغبار يغطي المكان، والأصوات تتشابك بين أنين، نداءات، وخطوات تتلمس الحياة بين الركام.
وفجأة يظهر القمر، شاخصا فوق الخراب، وحيدًا، يشهد صمت الأرواح، يسلط ضوءا ضعيفا على ما تبقى من الفرح المدفون. أكثر من عشرين روحا رحلت، والجرحى يتشبثون بما تبقى من الليل، لكن المشهد الأخير يبقى ثابتا: شرفة مائلة، مصباح مقاوم، ووميض خافت يضيء الظلام… كأن الحياة ترفض أن تسدل الستارة






































