أشرقت شمس يوم جديد، شمس لا تعرف ما تخفيه للقلوب المتعبة
و أحلام تنبض بروح متفائلة، تسابق الريح علها تجد مأوى تسكن فيه آمالها الهشة، و تسكت به أنين انتظار طال أكثر مما ينبغي.
وقف يوسف عند الميناء ، يحدق في الأفق البعيد،ذلك الخط الأزرق
والذي وعده بحياة أخرى ،أخف
وطأة، وأقل قسوة من أيام أكلها العجز بصمت.
التقى بصديق العمر أحمد ، الذي يعرف صمته كما يعرف اسمه.
تبادلا نظرة قصيرة ، نظرة لا تحتاج إلى تفسير ، فالحلم كان واحدا،
والهروب من ضيق الواقع
أشد إلحاحا من أي سؤال.
اتفقا أن يجربا حظهما في الهجرة،
أن يضعا أقدامهما في درب جديد،
قد يكون قاسيا ، لكنه – على الأقل –واضح المجهول.
استعدا للرحيل : الوثائق جاهزة،
الحقائب محكمة ، و القلوب معلقة بوعد اسمه العمل،
وحياة لا تقاس بالخسارات وحدها.
الوجهة مرسومة، والأحلام كتبت سلفا على دفاتر الصبر الطويل.
ركبا العبارة نحو الضفة الأخرى،
وكان البحر هادئا على غير عادته،
كأنه يتواطأ مع الوهم ، يربت على الموج ليخفي ما ينتظر العابرين.
تقدمت العبارة ببطء ، وكل متر كانت تقطعه يبتلع خلفه خوفا قديما، ويزرع أمامهما أملا حذرا.
لكن حين انتشر خبر العقود المزورة ، بين المسافرين لم يحدث صراخ ، ولم تنفجر الفوضى،
بل ساد صمت أثقل من العاصفة،
صمت يشبه اللحظة التي تسبق السقوط.
نظر يوسف إلى أحمد، فرأى في عينيهما لم يقله أحد:
أن العودة لم تعد خيارا ، وأن المضي إلى المجهول أخف وطأة من الرجوع مثقلين بالخيبة.
اقتربت العبارة من المرسى ، وكان البحر قد فقد حياده، تقلص صوته فجأة ، كأنه يحبس أنفاسه
منتظرا القرار.
على الضفة ، انشغلت شرطة الحدود بضجيج مألوف:
أختام تضرب ، أوامر تلقى،
ووجوه تستجوب دون اكتراث حقيقي بالعابرين.
في تلك الفوضى المنظمة ، انساب يوسف وأحمد بين الصفوف،خطواتهما مترددة
لكنها ثابتة ، كأن الأرض نفسها
غضت الطرف عنهما.
لم يسألهما أحد عن العقود،
و لا عن الوعود التي سقطت في البحر،ولا عن أحلام وصلت ناقصة.
وحين عبرا آخر حاجز، توقف يوسف لحظة،شعر بثقل غامض في صدره،
لا هو فرح كامل ولا هزيمة صريحة.
أما أحمد،فشد على حقيبته أكثر،
ومضى خطوة إلى الأمام، كأنه يمسك بما تبقى من اسمه، وقال بصوت خافت :
«ربما…هنا يبدأ الامتحان الحقيقي».
تركا الميناء خلفهما ، والبحر يبتعد ببطء ، كشاهد صامت لا يدلي بشهادته.
أمامهما ، امتد طريق بلا لافتات،
لا يعد بشيء، و لا يتراجع ، طريق يشبههما الآن تماما.






































