في ذلك المساء، كنتُ على الشاطئ، ككل يومٍ منذ اعتزالي للعالم، وما فيه من زيفٍ وبشاعة.
نأيت بنفسي عنه واتخذتُ البحر رفيقًا وحيدًا، أشاركه رحلة بحثي عن الحقيقة عبر رسائل دوريّة أفرغ بها ما بداخلي، أودعها أمواج البحر، منتظرًا إجابة على سؤالي:
"ترى، من منّا المخطئ ومن المصيب؟"
لكن اليوم راودتني فكرة أن أكون أنا البريد الذي تذهب به الأمواج إلى المجهول.
كان الوقت آخر شهقةٍ للشمس، وأول زفرات الظلمة... والبحر فاتحٌ ذراعيه بكل ترحيب.
أشرق الصباح...
أيقظني شيء يتحرّك على كتفي.
نفضتُه... ففزعت.
شيءٌ ملتصق بجسدي.
أدرتُ رأسي بحذر، فرأيتُه...
وشمٌ ـ لم يكن موجودًا من قبل ـ على شكل نجمة بحر، كان بارزًا، يتحرّك ببطء على جلدي.
كان يشعّ بتوهّجٍ يشبه الغروب.
انتفضت، أحاول التخلّص منه، اصطدمتُ بالجدار، وضربت رأسي...
لكن الألم الحقيقي لم يكن في جمجمتي، بل... في داخلي.
شيءٌ لم أعرف ماهيّته.
لعدّة مرات، حدّقت فيه في المرآة، أبحث عن تفسير... لكن عبثًا.
حتى قفزت إلى رأسي لحظةٌ عشتُها أمس على الشاطئ...
نجمة بحر كانت بجانبي، لونها يتدرّج بين نحاسٍ محترق وأرجوانٍ بارد.
كان في داخلها شيءٌ ينبض.
مددت إصبعي، وعندما لمستُها... كأنني لامستُ عصب العالم.
صعقة، بل أشد... كأنما طُعِنتُ بنورٍ لا يُرى.
ارتجّ جسدي، واهتزّت كل ذرّة في كياني.
ثم...
هدوءٌ مفاجئ. صمتٌ كثيف.
تذكّرت أني عدتُ إلى المنزل منهكًا، بأصابعي المرتعشة.
أقنعت نفسي حينها بأنها مجرد هلوسة، إرهاق لا أكثر... ونمت.
لم تكن وهمًا، كانت السبب.
ولكن... ما وراءها؟
هذا ما عجزت عن فهمه.
رغم غرابة الحدث ورعبه، لم يكن أمامي سوى تجاهله.
فاللامبالاة باتت طبعي منذ زمن.
أكملت يومي كعادتي، حتى حان موعد تسليم رسالتي للموج وتأمّل تواري الشمس الخجول خلف الأفق.
ومع أول حرفٍ خططته، توهّج الوشم، وانبعث منه ضوءٌ أنار غرفتي شبه المظلمة.
عبر انعكاسه في المرآة، رأيته يتّسع رقعةً، يتّخذ شكل قلبٍ ينبض!
لم تسعفني لامبالاتي، فصرخت:
"تبًّا! ماذا يحدث؟!"
وما إن لمستُه، حتى سرى فيّ ذات شعور الشاطئ...
لكنني هذه المرّة فقدت الوعي.
---
استيقظتُ على أرضٍ لزجة، قدماي غير مستقرّتَين.
الضوء خافت، وضبابٌ كثيف يلفّ المكان.
ومن قلب المشهد... ظهرت امرأة، كظلٍّ يتقاطع مع الضوء، كائنٍ لم أستطع تحديد نوعه.
اقتربت، وقالت بصوتٍ متكسّر:
"خلاصك بين يديّ."
نظرتُ إليها مرتجفًا وبصمت، أحاول الاستيعاب.
تابعت:
"هذا ليس خيالًا."
دوّت كلماتها في رأسي كالصدى، وفي تلك اللحظة، رأيتُ الوشم يتحوّل...
أخذ يمتد أكثر، أصبح عينًا تتّسع بشكلٍ مفرط، كأن داخلها على وشك الانفجار.
قالت:
"لا تستغرب... الوشم مرآة شعورك.. وأنت الآن... خائف."
ضحكت ضحكةً قصيرةً باردة، وأكملت:
"وأنا... سأأخذ خوفك... وإلى الأبد."
جاهدتُ كي أبدو قويًا، وتعثّرت الحروف على لساني قبل أن أنطق:
"ولماذا؟"
أجابت وهي تستدير ببطء:
"نتّفق... وستعرف."
---
فتحتُ عينيّ، فإذا بي فوق سريري، وبضع أشعة شمسٍ تحاول التسلل من بين الستائر الداكنة لنافذتي.
حُلم؟!
لكن المرآة المقابلة أكدت أنه لم يكن كذلك.
ها هو الوشم... مستقرٌّ على كتفي.
كل ما يحدث مريب! لكنني قررت أن أتناساه...
وليكن ما يكون.
جاء يومٌ جديد.
لكنه مختلف عن المعتاد...
قلمي لم تحرّكه رغبتي في الكتابة، ولم أُبالِ بقصد الشاطئ.
كأن نارًا بداخلي قد خَبَت.
ومع لمعان الوشم، استُحضر موقف الأمس ببالي... وكلمات المرأة الضبابية:
"الوشم مرآة شعورك."
أدرتُ بصري نحو كتفي، فإذا بالوشم بهيئة زوبعةٍ تدور بعشوائية، ويزحف نحو صدري.
لم أُطِل التفكير بين حقيقة ما يجري أو بطلانه... ولمستُه.
---
فإذا بي في صحراء يلفّها غبارٌ بالكاد يتحرّك، أرضها زجاجية ممتلئة بمشاهد تتبدّل بسرعة.
كلّما خطوت، تجمّد مشهدٌ تحت قدمي، وتتصاعد همساتٌ مبهمة من كل اتجاه.
ثم، ظهرت امرأة الضباب مجددًا:
"حان الموعد... لنعقد الاتفاق."
ودون خوفي السابق، سألتها:
"الموعد؟!!.. وأيّ اتفاق؟"
قالت:
"أمنحك الراحة... وأستكمل طريقي."
سألتُ بصرامة:
"كيف؟"
أجابت:
"بكل شعورٍ تتخلّى عنه، أقترب أنا من بلوغ وجهتي."
كان الوشم يتوهّج، ويتغيّر دون توقف... ويزداد امتدادًا.
سألتها:
"لِمَ أقبل؟ وما المقابل؟"
قالت:
"لكل شعور تُضحّي به... ستحيا يومًا من ماضيك تتمنى عودته."
كان العرض مغريًا جدًّا...
اشتقتُ لصوت الموسيقى، أن يبلّلني المطر، حتى توبيخ أبي... للحظاتٍ بعينها ضاعت في زحمة تكرارها وفقدت معناها.
إذًا! ما جدوى المشاعر إن كانت تؤلمني؟... فلتذهب.
قلت بلا تردّد:
"اتفقنا."
ضحكت ضحكةً هستيرية... وهي تقول:
"بدأنا قبل قبولك."
فتكسّر الزجاج... وابتلعني.
---
فتحتُ عينيّ ببطء.
كنت في غرفة المعيشة.
رائحة العشاء وصوت دندنة أمي وهي تحضّره، أبي يقرأ الجريدة، وضحكات إخوتي...
بساطةٌ افتقدتها.
كنت بينهم، ولم يلحظني أحد.
لا بأس... فبعض اللحظات تكفي.
في غرفتي الرمادية، كان هناك فراغٌ في صدري، لا يُشبه السلام... بل اللاشيء.
تعايشتُ مع انسلال المشاعر مني، واحدًا تلو الآخر:
الحب، الخوف، القلق...
فكرةٌ مطمئنة، حتى اللحظة.
تتالت الأيام... بجسدٍ يشبه آلة، يتقن الحركة... مجرّد من الإنسانيّة.
لم أستطع تمييز إن كان هذا ما أريده أم...!
أفكّر دومًا، كيف انتهى بي الأمر إلى هنا؟
كيف كان كشف الأقنعة عن وجوه من ظننتهم سندًا هو السبب؟
كانوا مخادعين، أنانيين، لا يرَون إلا أنفسهم، يطؤون على قلبي كي يرفعوا أقدامهم خطوةً أبعد.
لا رحمة في هذا العالم، كلٌّ يترصّد لحظة ضعفك، لينقضّ عليك كذئبٍ جائع، لا شفقة فيه ولا رأفة.
لقد أصبح عالم الوشم شاغلي الوحيد.
وفي كل مرة أزوره، أعود من ذكرى مُعاشة بفراغٍ أكبر... وحملٍ أخف...
ربما هذا أفضل.
---
اليوم، كنتُ في مكتبة لا متناهية، رفوفها تموج، وصوتٌ يناديني من عمقٍ ما.
تتبعته... كان يصدر عن كتابٍ فوق منضدة حجرية.
حين فتحته، انبعث من وشمي دخان، تجسّد بامرأة الظل، قائلة:
"اقتربت النهاية."
قلت:
"وليكن."
تساقطت الكتب بصوت رعد... وها أنا في مدينة الظلال.
أبنية من مشاعر منسيّة، جدران من وجوه شاحبة، وشومٌ تحلّق، تمشي، تزحف...
ومض الوشم ـ جسدي كله عدا قدميّ ـ مخاطبًا المرأة:
"بقي شعورٌ واحد، ويفتح الباب."
أجابت وهي تنظر إليّ:
"من أشعل النار، لن يخشى الاحتراق."
ما هو هذا الشعور الأخير؟
أحسبني فقدتُ كل شيء...
استعنت بنظري للوشم كي أرى الشعور فيه، لكني لم أجده... لقد اختفى.
حينها خطر ببالي:
ماذا لو أنني لم أقبل العرض من البداية؟
ماذا لو تراجعت الآن؟
وكأنها سمعت أفكاري، فقالت:
"لا مجال للتراجع...
إما أن تُتم الصفقة، أو تُمحى ذاكرتك، وتعود كما كنت... بآلامك، ووحدتك."
في هذه اللحظة الفارقة، تذكّرت شيئًا...
لم أفقده، بل نسيته.
لم أكن بحاجة إلى اتفاق.
كنت بحاجة إلى يقين... إلى إيمانٍ ينتشلني.
عندها، تجلّت المرأة... من رمزيتها...
لقد تكشّفت أمامي الحقيقة.
أنها الحياة...
هي لا تسلبنا مشاعرنا،
نحن من نختار فيمَ نصرفها.
شعرتُ بمياه البحر تلاعب قدميّ... مشهد مدينة الظلال بدأ بالتلاشي.
نظرتُ إلى السماء وأنا أقول:
"الإيمان... نعم... به فقط نستطيع تجاوز كل المراحل.
نجاتُنا... بين أيدينا."
فتحتُ عينيّ... أنا في غرفتي.
نسيمُ الصباح ينساب من خلف الستائر، لكنه ليس ككل صباح.
نهضت. اقتربت من النافذة التي طالما كانت مغلقة.
سحبت الستار بخفّة، فاندلق الضوء على وجهي كشلالٍ من حياة.
تنفّستُ بعمق، كأن صدري تذكّر الهواء.
وقوفي على الشاطئ منذ اليوم لن يكون للشهادة على دفن النور، بل على ولادته من جديد.
---
تمّت