كان يوماً متعباً جداً ، مُرهقة حد النعاس.
فيومي يبدأ منذ ساعات الصباح الباكر ، إعداد طعام الإفطار، تهيئة صغيرتي ونفسي للذهاب إلى المدرسة.
ممارسة التعليم لأطفالٍ بعمر السبعة أعوام تتطلب جهداً إضافياً وقلباً متسعاً لإحتواء الخجول منهم، والمشاغب، والعصبي، والذكي، وغيرهم .. فلكل واحدٍ طبعٌ عليك استيعابه وتوجيهه لتضعه على المسار الصحيح الذي ينطلق منه نحو مستقبله.
ثم أعود لمباشرة أعمالي المنزلية، من تحضير الطعام، وما يتبع ذلك من متطلباتٍ تقع على عاتق الأم والزوجة.
وهكذا يمر الوقت بحركة مستمرة تكاد لا تهدأ ، حتى تحين لحظة ضبط منبه الساعة الذي سيُعلن رنينه استقبال يوم جديد..
وبحكم أُمومتي، فإن عليَّ استكمال واجباتي حتى آخر رمشة عين.
اعتادت ابنتي أن تضع رأسها على يدي وأنا معها في سريرها كي تُنصت بكل إصغاء لإحدى حكايات ما قبل النوم وأنا أرويها لها، حتى تغط في نومها، فأكون بذلك قد أتممت آخر المهام.
بعينين شبه مُقفلتين، وبصوتٍ كسول بالكاد يخرج من حنجرتي، كنت أتلو الحكاية، وأجزم حينها أن الحكايا تداخلت ببعضها البعض، وقد تفوَّهت بشيء لا يمت لها بصلة لفرط إرهاقي، فأطبق جفناي استسلاماً للنوم الذي يجرهما بكل عزمه، استجابةً لكافة أعضاء جسدي المتوسلة إليه أن يُقيد حركتي، ويُوقف تخبط عقلي الحائر بين الاستسلام للنوم والاستمرار في التركيز مع صغيرتي.
بين وعيٍ ولا وعي، ومن خلال نافذة الغرفة المفتوحة – إذ كان الطقس صيفاً – رأيت شهباً تتساقط بغزارة من السماء باتجاه النهر، الذي اتخذ وسط المدينة مجرى له.
مشهدٌ جعلني أرتعش ذهولاً وخوفاً.
كان حجمها يتضاعف كلما اقتربت، وما إن سقط شهابٌ في النهر حتى يرتفع منسوب الماء، إلى أن بلغ مستوى الجسر الممتد بين الضفتين.
توقف التساقط، فيما استمرت المياه بالتدفق في كافة أرجاء المدينة حتى غمرتها بالكامل.
لا أدري كيف وجدت نفسي بداخلها. التفتُ حولي فلم أجد أحداً سواي، بدأتُ أبحث عن المبنى الذي أسكنه، أرغب بالوصول إليه.. غير أن حركتي كانت مشلولة تماماً.
في تلك اللحظة، كنت أعي جيداً أنني في حلم، وأني سأستيقظ منه حتماً... لكنه أبى أن ينتهي.
أشعر بثقل أنفاسي اللاهثة، وبشدة نبضات قلبي المتسارعة..
وبقصارى جهدي، أحاول رفع يديّ أو تحريك قدميّ، لكن دون جدوى، وكأن شخصاً ما يُحكم إمساكي بكلتا يديه.
وسط عجزي وخوفي هذا ، حاولتُ الصراخ، إلا أن صوتي خذلني، ولم يمر عبر حنجرتي..
فجأة، انقض عليَّ شبحٌ بسرعة خاطفة، رفعني إلى علو يناهز الخمسة عشر متراً، غير أن خطفته هذه كأنما سحبت مني الروح فقط، فقد كنت أُشاهد من تلك المسافة جسدي المُحاط بالرعب، وهو ساكن بلا حول.
وبذات السرعة، ألقى بي .. خلال هذه الأجزاء من الثانية كنت على يقين بأن لحظة وصولي إلى الأرض سأكون في عداد الأموات حقيقة لا حلم .
لكن، قبل أن أرتطم، فتحت عينيّ بشهقة علمت حينها أن الكابوس قد انتهى.
الظلام يخيم على المكان...
لم تكن ابنتي معي، وزوجي الذي كنتُ أنتظر عودته من عمله لم يكن موجود أيضاً.
نهضتُ فزعة، أتوجس طريقي إلى صالة المنزل وأنا أنادي: "لارا، أين أنتِ؟"
وأثناء مروري بجانب النافذة المفتوحة، لم أَرى من المدينة التي خيم عليها السواد سوى تلألؤ القمر فوقها.
لكن انعكاس ضوءه هو ما أثار ريبتي!
فمياه النهر قد أغرقت المدينة بالفعل!... أو هكذا خُيل إليّ.
استبعدت الفكرة من رأسي وأنا أقول لنفسي: "هذا من تأثير الحلم الذي رأيته في غفوتي".
تابعت طريقي بحذر، أعيد مناداة ابنتي إذ لم أتلقى إجابة منها.
كان كل شيء مخيفاً.. العتمة، تمكُن الحلم مني وكأنني ما زلت بداخله... لكن اختفاء صغيرتي كان هو المسيطر الأكبر على تفكيري.
واصلتُ ندائي بقلق كبير وأنا أتلمس الشمعدان بعد وصولي إلى المنضدة المتواجدة في الصالة، أبحث بجانبه عن علبة الكبريت لأُشعل الشموع، غير أنني لم أجدها.
توجهتُ ببطءٍ لفتح النافذة، فضوء القمر كان السبيل الوحيد لإنارة المكان.
وما إن فتحتها حتى سمعت صوتاً خافتاً كأن يأتي من مكان بعيد، يقول: "ماما... ماما..."
أبحث حولي عن مصدره وأنا أقول: "حبيبتي، أين أنتِ؟ أنا هنا، تعالي إليّ".
انقطع الصوت، لم ألقى رداً ولم أتبين جهته... أثناء ذلك تعثرتُ بالأريكة، فوقعت أرضاً وقد ضُرب رأسي بشيءٍ ما.
عندما صحوت ، كان أول ما وقعت عليه عيناي هو المصباح ، كان بشكل مختلف عما اعرفه ،لكن ذلك لم يكن ذو أهمية بالنسبة لي حين جلتُ بنظراتي يمنةً ويسارا، أنا في غرفتي، وكل ما سبق كان مجرد أحلام وانقضت - هكذا قلت في نفسي - فتنهدت تنهيدة اطمئنان .
دخل زوجي وهو يجفف رأسه بمنشفة الاستحمام ، ابتسم عند رؤيتي مستيقظة وقال:
"أيقظتك؟ لم أتعمد ذلك."
أجبت:
"لا، لست أنت... والحمد لله أني هنا."
تساءل مستغرباً:
"أنك هنا؟! لم أفهم."
قلتُ ضاحكةً:
"لا تبالي لقولي."
كان قد انتهى من تسريح شعره، فاستلقى بجانبي على السرير وهو يقول:
"آه ،أخيراً سأحظى بالاسترخاء والراحة."
اقتربت منه وأنا أشعر بسرور بالغ إذ أن ما مررت به لم يكن حقيقة.
احتضنت ذراعه بقوة، وسألته:
"كان يوماً شاقاً إذن."
أجاب بابتسامة تعجب من فعلي:
"نعم.. وكما العادة... وأنتِ؟"
كنت سأقول "جداً وأكثر منك"، لكني تذكرت أن الأحلام السيئة لا ينبغي التحدث بها كي لا تتحقق، فاكتفيت بـ "الروتين اليومي".
(شعرت بغباشة بعينيّ..وترآى لي منظر الشهب ).
وضع يده على يدي التي تحتضنه وأغمض عينيه، وقد استأذن مني أن أطفئ النور، وأنهى كلامه بـ "تصبحين على خير".
في ذلك الوقت، كان هو بحاجة ماسة للنوم، فعليه أن يتواجد باكراً في غرفة العمليات - بحكم عمله كطبيب - لكن بالنسبة لي، وبكل صدق، فقد خشيت أن يتكرر ما عشته مجدداً، لذا قررت أن أبقى مستيقظة.
كنت مستاءة جداً من إعادة مشاهد الحلم في عقلي... أريد أن أنسى فلا أذكر منه شيئاً.
ويبدو أني أكثرت من الحركة - هكذا ظننت - فجاء صوت زوجي:
"هل أنتِ بخير؟"
أجبته بـ "نعم"... لكنني كنت بحاجة للتحدث معه، بحاجة لفهم بعض الأمور التي بدأت تشغلني، ولكن دون أن أفصح عنها بشكل مباشر.
سألته: "لم تنم؟"
رد بـ "أحاول"
( كأني كنت اقرأ افكاره واعلم مسبقاً ما سيقول)
فأكمل وهو مغمض العينين:
"أخبرني، ماذا هناك؟"
بشيء من التردد سألته:
"هل يمكن للإنسان أن يرى في حلمه أنه يحلم؟... أقصد... أن يستيقظ من حلم فيرى أنه بداخل حلم آخر؟!"
(عادت الغباشة..وكأن صوت طنين برأسي)
قال باختصار:
"نعم"
لم تكن إجابته مرضيةً بشكل كافٍ لتهدئة عاصفة التساؤلات بداخلي، فقلت بعد برهة من السكوت:
"لماذا؟... أعني... ما الذي يؤدي لحدوث هذا؟"
تململ وهو ينظر إلي قائلاً:
"شرحه يطول وليس لدي القدرة على فتح هكذا نقاش حالياً "
(كنت اسمع كلماته كصدى للصوت، حتى وجهه لم يكن واضحاً )
أدار ظهره... ثم أعاد الالتفات عندما قلت له متسائلة..
"هل من الممكن أن يتكرر ذلك في يوم واحد؟"
أشار إلي كي أعود للاستلقاء، فقد كنت متخذة وضعية الجلوس، خوفاً من أن يغلبني النعاس، وقال:
"ليس لدي إلمام تام بهذا الموضوع، ولكن لا أعتقد أن يحدث بذات اليوم... أهذا سبب قلقك؟... هل حصل معك؟"
لم أكن أريد الإطالة عليه فقد كان هو أيضاً متعباً، فاكتفيت بقول "لا، مجرد فضول للمعرفة".
كنت اقول بداخلي تفكيري سيظهر توتري ولن يستطيع النوم جيداً، حاولت النهوض وأنا أخبره بأني سأطمئن على ابنتنا ريثما يدخل في غفوته.
وهنا فاجأني بكلامه وتحديقه الذي جعل عيناه تتسعان...
"عمن تتحدثين؟!"
أصابتني الدهشة من سؤاله... فمؤكد لم ينسى أنه أب!.
وجسدي شلت حركته كذلك
أجبت بتلعثم واستغراب:
"ابنتنا !.. لارا !"
عندها...انقطع النور، و عم سواد لم أرى فيه سوى عينيه التي كانت تلمعان بشكل مخيف
ارتعدت من مظهره ومن صوت الرعد الذي دوى بقوة تزامناً مع انهمار المطر الغزير ..
اشعر بضيق شديد ..الحلم استولى عليّ .. وهذا يخنقني..
وها أنا مجدداً، شبه أعوم في الماء الذي أغرق الأحياء كلها ..
لكن هذه المرة، لم أكن وحدي
الشوارع تعج بالسيارات والحافلات ، تشق طريقها وسط السيول، وأشخاص يسيرون بهدوء، وآخرون يتسوقون ، وكأن الأمر طبيعي
الغريب ليس المشهد وحده، بل استمرار العتمة.
في داخلي أعلم أن الوقت صباحاً، لكن السماء لا توحي بشيء من ذلك
طافت نظراتي في كل الاتجاهات، أبحث عن شيء واحد منطقي.
عن أي تفسير لما أنا فيه ، وعن كيفية انتقالي من مكان لآخر بلحظة واحدة .
خفقُ قلبي الغير منتظم – الوحيد الذي أشعر بحقيقته – كان يخبرني أن الأمر مريب.
افزعتني رؤية إحدى الحافلات وهي تتجه نحوي ، أردت الهروب قبل أن تصطدم بي لكني لم استطع ، لم أتحرك، كل ما كان بوسعي بسبب حالة الشلل التي تتكرر معي هو أن اغمض عينيّ ... ثم .. وجدت نفسي عند زاوية الشارع، أمام المحل التجاري الذي أتبضع منه عادةً..
ثم... أنا بداخله، وكان معي والدي! ..
كان يأخذ من على الرفوف أنواعاً مختلفة من أكياس الحلوى، يضعها في سلة يحملها في يده ، ويمسك بالاخرى كفي، وهو يبتسم لي... ناولني كعكة كان يحضرها لي اثناء عودته من عمله عندما كنت طلفة ..فرحت بها كثيراً وأخذت منها قضمة ،لكني لم اجد لها طعماً في فمي .
والدي المتوفى!.. لكني الآن أشك بذلك.
الآن... لم أعد أدرك إن كان هذا حلم؟ ولو أنه كذلك، فلا أريد نهايته.
السقف والجدران أخذت تتلاشى تباعاً، ثم الحي بأكمله بكل من فيه ، ثم لم يتبقى أي عمران، فقط الأرض المغمورة بالماء على مد النظر.
ومن زاوية غير معلومة، تناهى لسمعي صوت ضوضاء... ضحكات... جري... أصوات أطفال يلعبون... لكن أين؟
رفعتُ بصري إلى الأعلى فرأيتُ نوراً خافتاً - لم أُميز أهو للشمس - تحجبه غيوم كثيفة متلاحقة...
كنتُ في فترات عبور إحداها وقبل أن تتبعها التالية، أترقب سطوع الضوء أكثر، علّه يبدد الظلام الذي يحيط بي ويتضح لي حقيقة ما أنا فيه...
لكن الذي كان يظهر في كل مرة هو صورة لطفل مختلف عن الآخر... أعرفهم... إنهم تلاميذي...
ابتسمتُ مع كل صورة... وإحساس دافئ لطيف يغمرني... وكأن يداً أمسكت بيدي ـ رغم عدم وجود أي شخص معي - فشددتُ قبضتي عليها، شعرتُ أنها النجاة.
تحولت بعدها الغيوم الداكنة إلى سحاب خفيف، واتسعت الصورة خلفها، اصبحت لوح زجاجي ، وقد كنتُ قريبة منه، رأيتُ نفسي من خلاله في الجهة الثانية، وفي أذني أسمع دقات قلبي وصوتاً ينادي: "ماما، ماما".
سؤال واحد فقط يتردد في ذهني الآن " هل أنا هنا ، أم هناك ؟! "
/ تمت /