كان الجو باردا من ذلك البرد الذي يوقظ الذكريات أكثر مما يوقظ الجسد
أحضرت ياسمين كوب الشاى الساخن وبعض المخبوزات التي تفوح منها رائحة بيت دافئ
لكنها كانت تعرف أن الدفء الحقيقي لا يأتى من الشاي
بل من قلب افتقدته
جلست أمام التلفجن تقلب القنوات بلا اهتمام حتى توقفت فجأة
ظهر وجه ميادة الحناوي في أمسية تلفزيونية قديمة
وبدأ صوتها يرتفع:
"كان ياما كان…"
تجمدت ياسمين
لم يعد الجو باردا
بل هي التى ارتجفت
وكأن الأغنية التفتت نحوها قاصدة قلبها وحده.
كأنها تعرفها
تعرف قصتها
تعرف الجرح الذي ظنت لسنوات أنه نام
اهتز قلبها وامتلأت عيناها بالدموع قبل أن تفهم السبب
وقفت للحظة كمن يحاول الهروب
ثم جلست قرب النافذة وضمت كفيها المرتجفتين وعيناها تبحثان في الظلام عن ذكرى تهرب منها منذ زمن
همست لنفسها:
لسه فاكر يا قلبي… بعد كل اللي فات؟
عاد صوته القديم يتسلل إلى روحها
ذلك الصوت الذي كان يوما أمانا
وكان بيتا
كانت تحبه كما لا تحب امرأة
ترى فيه رجلها وزوجها وسندها
وترى فيه سماء
فتحت أبوابها لها وحدها
كانت تقول له بابتسامة واثقة:
"انت اختياري اللي عمري ما ندمت عليه"
وكان يجيبها بنظرة تثبت الأرض تحت قدميها:
"وعدي ليكي ما يتغير… ما دام القلب ينبض"
لكن القلوب لا تكسر مرة واحدة
بل بالتدريج
والوعود لا تسقط فجأة بل تتآكل تحت ضغط الأيام وأهل يتدخلون
ومشاكل تضرب أعماق البيت
تذكرت آخر ليلة…
وقوفه أمام الباب
حائرا ممزقا بين حبها وبين إرضاء أهله
يداه ترتجفان
وصوته خافت كمن يعترف بهزيمته:
ما بقتش قادر أوجعك أكتر
الفراق أرحم من جرح يومى
صرخت بدموع محبوسة وغصة موجوعة:
بس أنا باتوجع من غير ذنب!
أنا ليه أدفع تمن مشاكل غيرى ؟
لم يستطع النظر في عينيها
أطرق رأسه
وكأنه يعترف بخطيئة أكبر من الكلام:
وأنا كمان موجوع
بس ما عاد ينفع نكمل
سقط صوته على قلبها كسكين بارد
سكين ظل مغروسا حتى هذا اليوم
عاد صوت ميادة يمزق اللحظة:
"كان في زمان…"
ازدادت دموعها
كأن الأغنية تسحبها من حاضرها وترميها وسط ليلة الفراق
همست وكأنها تخاطب ظله الذي غاب ولم يغادرها:
يمكن الفراق علمنا
يمكن وجعنا
لكن الحب
الحب
ما مات
رفعت رأسها نحو السماء تبحث عن قوة تعيد لها نفسها
قالت بثبات موجوع:
في حب بيعيش
حتى لو ماتت العلاقة!!
انتهت الأغنية
لكن وجعها لم ينته
وحبها لم ينطفئ
لأن بعض القلوب
حين تغني لها الأغنية المناسبة
تنكسر من جديد
وكأن الفراق حدث أمس
وكان صوت ميادة
الجرح الذي أيقظ كل شيء
أغنية أيقظت وجعا لم يهدأ يوما
استيقظ حب لم يمت





































