في لحظات الصفاء الذهني، قد نجد أنفسنا نغوص في التأملات حول العالم هو الذي يحيط بنا. هذا السؤال الذي يبدو بسيطًا على سطحه: “هل تؤمن بالعلم أم بالخيال؟”، قد يبدو للكثيرين مجرّد معضلة فلسفية، أو حوار عقيم في مجال الفكر. ولكن عند التعمق فيه نجد أن هذا السؤال يحمل في طياته أبعادا أعمق مما يبدو عليه. وهذا ما حدث حين طرح العالم سؤاله لضيفه، والرد جاء ليجسد الحقيقة التي لطالما تاهت عن كثيرين: “العلم يبدأ بالخيال، والخيال يقود في النهاية إلى العلم.”
من هذا المنطلق، يمكننا أن ننطلق في رحلة لاستكشاف العلاقة بين العلم والخيال، وكيف يمكن أن يتعاون هذان المفهومان
بدلاً من أن يقفا في وجه بعضهما البعض.
الخيال: الجسر الذي يعبر بنا إلى العلم
دعونا نبدأ بتأمل نقطة البداية: الخيال. عندما ننظر إلى قصص الخيال العلمي أو الروايات الأدبية التي تصور عوالم مستحيلة أو غير واقعية، قد نجد أنفسنا نقوا ده خيال علمى
ولكن ماذا لو ألقينا نظرة أعمق على هذه القصص؟ ماذا لو كانت تلك الأفكار التي تبدو للوهلة الأولى مستحيلة هي الشرارة التي ستشعل مستقبلاً جديداً مليئاً بالاختراعات والاكتشافات؟
حصل فعلا
النظرة السطحية للخيال قد تحصره في نطاق الأوهام أو الحلم
ولكن في الحقيقة كل ما نراه حولنا اليوم، من التكنولوجيا المتطورة إلى الأدوات البسيطة التي نستخدمها في حياتنا اليومية كان في وقت ما جزءًا من خيال شخص ما. الطائرات، على سبيل المثال
كانت في البداية مجرد فكرة تجول في خيال الإنسان، وكان الناس يعتقدون أن الطيران شيء مستحيل. لكن عندما جاء الأخوان رايت وحولا تلك الفكرة الخيالية إلى واقع
تحول الطيران من خيال إلى علم.
في المقابل
يأتي العلم ليحقق ما بدأه الخيال. العلم يعتمد على القوانين والمعادلات، وعلى التجارب والتطبيقات. إنه العالم الذي يحكمه المنطق والتجربة الملموسة حيث يتم التحقق من صحة الفرضيات وتطوير الأفكار لتصبح اختراعات ملموسة. ومع ذلك فإن البداية دائمًا تكون فكرة أو خيال
وهذه الفكرة تتحول من مجرد تصور عقلي إلى حقيقة بفضل العلم.
العلم لا يبدأ من الفراغ، بل يعتمد على مجموعة من المعطيات والفرضيات التي يضعها العلماء، ولكن الفكرة الأولى دائما تكون وليدة خيال
بدون الخيال لا يمكن للعلم أن يتطور أو يكتشف عوالم جديدة.
العلم والخيال ليسا متناقضين
بل هما وجهان لعملة واحدة. فالخيال هو النواه الأولى
والعلم هو الرعاية التي تجعل هذه البذرة تنمو وتتحول إلى شجرة مثمرة. العلاقة بين العلم والخيال ليست مجرد علاقة تكميلية، بل هي علاقة ضرورية لا غنى عنها لأي تقدم حضاري.
الخيال هو الذي دفع الإنسان ليبتكر أدوات للتعامل مع الطبيعة وترويضها، وهو الذي قاد العلماء لاكتشاف الأدوية التي تقاوم الأمراض الفتاكة. إنه البوصلة التي توجه الإنسان نحو المجهول، في حين أن العلم هو الأداة التي تمكنه من تحويل ذلك المجهول إلى معلوم
في اللحظة التي يتوقف فيها الإنسان عن التخيل، يتوقف العلم عن التقدم، والعكس صحيح.
على مر العصور، كان أعظم العلماء هم أولئك الذين عرفوا كيف يستخدمون خيالهم لصالح العلم. أينشتاين، على سبيل المثال
كان يعتمد بشكل كبير على التخيل العقلي والتجارب الذهنية لتطوير نظرياته العلمية. لقد قال ذات مرة: “الخيال أكثر أهمية من المعرفة. فالمعرفة محدودة، بينما الخيال يطوق العالم”. هذه العبارة تعكس بشكل مثالي كيف يمكن للخيال أن يكون القوة المحركة وراء الاكتشافات العلمية.
مقارنة بين الماضي والحاضر: “هما فين واحنا فين؟”
حين نتأمل تاريخ العلماء والمخترعين الذين سبقونا، ونقارن بين زمنهم وزماننا، قد نجد أنفسنا نكرر تلك العبارة التي تثير فينا الشعور بالمفارقة: “هما فين واحنا فين؟”
هذه العبارة التي تأتي كتعبير عن الإعجاب بقدرات العلماء في الماضي، وفي نفس الوقت كنوع من النقد لواقعنا الحالي.
العلماء في الماضي، بالرغم من محدودية الموارد التكنولوجية والعلمية التي كانت متاحة لديهم تمكنوا من تحقيق إنجازات عظيمة كانت تبدو في وقتهم مستحيلة. ليوناردو دافنشي، على سبيل المثال كان يرسم طائرات وطواحين هوائية في زمن لم يكن فيه حتى فكرة الطيران موجودة على أرض الواقع. لكن خياله كان يتجاوز حدود زمانه وتخيلاته تلك كانت بمثابة الأساس الذي بُنيت عليه فيما بعد الابتكارات العظيمة.
إذا قارنا بين الزمنين، فقد نجد أن هناك تشابهاً كبيراً في قدرة الإنسان على التخيل. لكن الفرق يكمن في كيفية استغلال هذا الخيال
العلماء في الماضي كانوا يعيشون في عصور لم تكن المعرفة العلمية متاحة كما هي اليوم، لكن ذلك لم يمنعهم من استخدام خيالهم لتطوير أفكار ثورية.
أما اليوم، فنحن نعيش في زمن تكنولوجي متقدم، حيث كل شيء يبدو ممكنًا، لكن هناك تساؤل: هل نحن نستخدم خيالنا كما يجب أم أننا أصبحنا نعتمد فقط على ما هو موجود دون أن ندفع بخيالنا إلى آفاق جديدة؟
في بعض الأحيان، قد نجد أنفسنا عالقين في صراع بين الواقعية والخيال. البعض قد يقول: “لنكن واقعيين، لا يمكن تحقيق هذا الأمر”. لكن هذا هو التفكير الذي يحد من التقدم. الواقعية ضرورية لتوجيه العلم وتطبيقه بشكل صحيح، لكنها لا يجب أن تقف عائقا أمام الخيال. عندما نفكر بطريقة واقعية فقط، فإننا نحد من إمكانياتنا ونجعل أحلامنا أصغر.
إذا نظرنا إلى بعض أعظم الإنجازات في التاريخ، سنجد أنها كانت تعتبر غير واقعية في وقتها. الهبوط على القمر، على سبيل المثال، كان مجرد خيال بالنسبة لكثيرين في القرن الماضي، ولكن في عام 1969 أصبح هذا الخيال حقيقة بفضل العلم.
العالم المستقبلي: كيف سيكون العلم والخيال بعد مئة عام؟
عندما ننظر إلى المستقبل، يجب أن نتساءل: كيف سيكون العلم بعد مئة عام؟ وهل سيتوقف الخيال عن دفع البشرية نحو اكتشافات جديدة؟ إذا استمر التعاون بين العلم والخيال بنفس الوتيرة، فإن المستقبل يحمل لنا وعودًا باختراعات وتطورات لا يمكن حتى تخيلها الآن.
التكنولوجيا التي نستخدمها اليوم كانت خيالاً قبل عدة عقود والاختراعات التي سنراها في المستقبل ربما تكون مجرد أفكار خيالية بالنسبة لنا اليوم. لكن من المؤكد أن العالم سيستمر في التطور، طالما أن هناك من يستمر في الحلم والتخيل.
العودة إلى البداية: من أين نبدأ؟
في النهاية، يمكننا أن نعود إلى السؤال الأساسي الذي بدأنا به هذا المقال: “هل تؤمن بالعلم أم بالخيال؟” والإجابة التي قدمها الضيف: “العلم يبدأ بالخيال، والخيال يقود في النهاية إلى العلم”. هذه العلاقة التفاعلية بين العلم والخيال هي التي تدفع البشرية إلى الأمام، وهي التي تفتح أبواب المستقبل أمامنا.
العلم والخيال ليسا متناقضين كما يظن البعض، بل هما جزءان لا يتجزأ من مسيرة التقدم الإنساني. الخيال هو الشرارة الأولى، والعلم هو الذي يترجم تلك الشرارة إلى واقع ملموس
.فإذا كنت تؤمن بالعلم، فعليك أن تؤمن بالخيال أيضًا. صوتلأن كل اكتشاف علمي عظيم بدأ بفكرة، وكل فكرة عظيمة كانت في الأصل مجرد خيال.