كان اجتماع كل أفراد الأسرة -طوال الوقت، أو معظمه- في البيت، يعد منذ أسابيع قليلة فقط أمرا شديد الاستثنائية، ولكنه لاشيء أمام استثنائية المشهد الذي يعيشه العالم هذه الأيام، وضمن مفردات هذا التفرد المرحلي، نجد وعائلتي ضالة اختلاف أذواقنا الفنية في متابعة كلاسيكيات الفن المصري.
كنت أتابع معهم فيلم "حكاية حب" الذي تم إنتاجه سنة "1959" م من تأليف: "علي الزرقاني" وإخراج:" حلمي حليم" وبطولة "عبد الحليم حافظ" و "مريم فخر الدين" و "عبد السلام النابلسي" و "فردوس محمد".
بالنسبة لي قصة الفنان الذي يبدأ من الصفر حتى يصل لتكوين دوائر تأثير وشهرة كبيرة، هي حصان رابح بإمكان أي مؤلف الرهان عليه، وسيجدني دوما في الصفوف الأولى للمشاهدة، حتى لو كان بطل الفيلم مثل العندليب؛ مطرب أعشق صوته وأغانيه، لكني لست مفتونة كثيرا بأدائه التمثيلي، لكن ذلك ليس ما استوقفني في فيلم فيه الكثير من المفارقات، والتي أعتبر أثرها ورمزيتها أكبر كثيرا من مساحة ظهورها، منهم مثلا براعة "أحمد يحيى" في تجسيد دورالأخ الأصغر "سمير"، وهو ما يؤكد أن الذي سيتمكن بعد تلك المشاهد بأكثر من عشر سنوات، من إخراج سلسلة من أهم الأفلام والمسلسلات المصرية، ولد فنانا، يعرف كيف يكون التماهى مع الدور الذي يسند إليه، وفي الفيلم أيضا كان ظهور "آمال فهمي" مذيعة برنامج " على الناصية" والذي يعد من أهم برامج الإذاعة المصرية، لكنها بظهورها بصفتها الحقيقية تؤكد على دور السينما كمؤرخ للملامح الحقيقية، بينما تعد الإذاعة هي نبع الملامح المتخيلة، وفي مباراة الواقع والخيال، يتوق البشردوما للمسة من الواقع وأثر من الخيال.
ما استوقفني حقا وشردت فيه طويلا هو تصوير أغنية "باحلم بيك" وكلماتها، من كتابة: "مرسي جميل عزيز" وتلحين:"منير مراد"،غنى "عبد الحليم حافظ" هذه الأغنية في الفيلم بصفته "أحمد سامي" مدرس الموسيقى الذي التقى بمذيعة برنامج "على الناصية" صدفة قبل عودته للأسكندرية خالي الوفاض، وذلك بعد أن فشل في التقديم بالإذاعة، ولم تواته قدرته على الالتقاء بحبيبته، وهي الحبيبة التي لم يتبادل معها سوى جملا معدودة، ولا يعرف إن كانت تبادله مايشعر به تجاهها، أو لا، لكنه استلهم منها كلمات هذه الأغنية وألحانها.
وبعد لمحة كوميدية في الحوار جعلت المذيعة تلح على "رفعت السناكحلي" صديقه والذي قدم شخصيته "عبد السلام النابلسي"؛ كي يسمح ل "لأحمد سامي" بأن يتواضع ويقدم موهبته في البرنامج، فيبدأ "عبد الحليم" الغناء، بملامح ولغة جسد تتطابقان مع فنان ونجم وليس مع وجه صاعد يبحث عن فرصة، بينما وجوه "الكومبارس" من حوله، هم من كانت ملامحهم في حالة توحد كامل مع معنى الأغنية، ومن يتابع أنفاس الفتيات من حوله سيجدها أكثر تهدجا منه، وكأنهن من يغنين الأغنية لا حليم!
أعتقدأن ذلك كان تلقائيا ولم يكن مدبرا بالكامل؛ ربما كانت نجومية وجماهرية "عبد الحليم حافظ" هي السبب، أو رهبة الوقوف أمام كاميرا السينما لدقائق كاملة، تعرف في مخيلتك أن في هذه الدقائق، ستظهر فيها صورتك وأنت بجانب نجم الجماهير بعرض وطول شاشة كبيرة؛ يشاهدها أعداد غفيرة من البشر.
بدأت الأغنية ب:
باحلم بيك انا بحلم بيك
و بأشواقي مستنيك
وان ما سألتش فيا
يبقی كفاية عليا
عشت ليالي هنيا أحلم بيك
فوجدتني رغما عني أتساءل، ما الذي يجعل أحدهم يحلم ويشتاق وينتظر، وهو مستعد لأن يتقبل كون المحبوب غير مكترث، مكتفيا بامتنانه أنه جعله قادرا على الحلم؟
ربما يرى البعض في هذا المعنى تجليا للمهزومية والتراخي، خاصة وأنه لم يسع أو يقدم في سبيل من يحلم به ما يجعله أهلا للقائه، ولكني أرى أن البذل هنا تخطى الشكل المادي، ليتصف أكثر بالبذل الروحي والذهني، وفيه يريض الحبيب أفكاره على احتمال عدم اللقاء، ولكن ذلك لن ينفي هناء الحلم وروعته!
كنت سابقا أعتبر جملة (وإن ما سألتش فيا) هي عبارة أقل شأنا من أن تكون في وسط كوبليه غنائي يقدمه "عتاولة" الأغنية العربية، شعرا وطربا، ولكني الآن أجدها في غاية البلاغة! عادة ما يكون السؤال عن الشيء أو الشخص هو باب نطرقه لمعرفة ما نجهل، لكن السؤال في الشيء أو الشخص، هو غوص فيما لا نريد الاكتفاء من معرفته!
يظهر بعد ذلك صورة لشوارع "كرموز" بالأسكندرية، وصوت جرس ملتاع على باب الشقة، ليبشر "سمير" أمه بأن "أحمد" يغني في الراديو، في لقطة ظهرت فيها فرحة كبيرة للأم حصنتها بالصلاة على النبي، وإمعانا في التهلل تهنئها "أم سيدة" جارتهم، بأسلوب يليق بتهاني النصر الحربي، وهو ما يساعد أي مشاهد لم يعش في هذه الفترة، أن يتخيل أهمية الراديو والفن في ذلك الزمن، فلم يبذل "سمير" مشقة تذكر في فتح المحطة، كانت الخيارات والمحطات محدودة، ولذلك لم يكن فيها مكان سوى للأفضل.
باحلم بيك يا حبيبي أنا
ياللي مليت أيامي هنا
باحلم بيك عارف من إمتى
من أول ماعرفت أحب
باحلم بيك و بحبك و إنت
أول حب وآخر حب
وإنت حياتي و ابتساماتي
وإنت النور للعين والقلب
ربما يثير هذا المقطع من الأغنية دهشة المتفرج، كيف له أن يقر بأنه يحلم بحبيبته –التي لا يعرفها بشكل واف بعد- منذ أن عرف الحب، ثم يقدم اعترافا بأن هذا الحب هو الأول والأخير! قد يجد البعض في ذلك مبالغة درامية؛ مقصود منها نفجير المشاعر، واختطاف لب المتفرجات اللاتي يحلمن بمن يغني لهن مثل تلك الكلمات، لكن ذلك المقطع من الأغنية أثار عندي من التساؤل والتأمل أكثر مما أثار من الدهشة، وجدتني أسأل عن معنى الزمن؟ هل هو قاصر على المعنى الفيزيائي الذي ارتبط بتعاقب الليل والنهار، وتحرك الأحداث؟
(عارف من إمتى؟) أتى فيها سؤال عن الزمن، ولكن الإجابة لم تكن توقيتا رقميا، كما اعتدنا فهم الزمن وحساباته، وإنما كانت توقيتا نفسيا وذهنيا، (من أول ما عرفت أحب)، وهنا إعادة تعريف للزمن بشكل يعمق ويوسع من مفهومه، ويجعل للزمن آفاقا أرحب من الأعداد، تظهر فيها قدرة النفس والروح.
وهو ما أخذني لسؤال آخر؛ ما هو أصلا تعريف الحب؟ قرأت كثيرا عن الحب، ووجدت أن الفلاسفة والمفكرين لم يستطيعوا التوصل لتعريف محدد له، وإنما قدموا اجتهادات فردية مبنية في أغلبها على رؤى وتجارب شخصية، لكن لفتني ما قاله الفيلسوف الألماني "غوتفريد لابينز" والذي عرف الحب بأنَّه: ( الرضا الذي نحصل عليه بسعادة شخص آخر) ،بينما أتى في وصف "أبو العباس القرطبي" عن المحبة أنها: ( ميل لما فيه غرض يستكمل به الإنسان ما ينقصه، وسكون لما تلتذُّ به النّفس وتكتمل بحصوله.)، وإن كنت أكثر اقتناعا بتعريف "لابينز" لكني أيضا لست ضد اجتهاد "القرطبي".
ظهرت صورة الراديو تتوسط الشاشة لثوان، لترتفع الكاميرا تدريجيا بعد ذلك فيظهر رئيس لجنة الاستماع في الإذاعة، جالسا يهز رأسه بالإيجاب في إشارة لإعجابه بصوت المطرب الذي يغني، وهو من طرده قبل ذلك من مكتبه شر طردة قبل أن يسمعه ويعطيه فرصته، ثم يلي ذلك لقطة أخرى يظهر فيها الراديو من جديد، لكنه هذه المرة يبدو وكأنه من "ماركة" أغلى وأكثر جمالا، في غرفة كل ما فيها من أثاث وتحف يدل على الثراء الشديد، لكنه لم يكن أثرى من نظرة "مريم فخر الدين" والتي جسدت دور الحبيبة، حيث كانت تستمع للأغنية، وتنظر بيقين، وكانها تعرف أنه يكلمها هي، وأن هذه الكلمات لم تكتب إلا من أجلها!
وهنا خطر على بالي سؤال جديد، هل هناك عالم مواز لعالمنا يتراءى لنا فيه، كل البراهين والأدلة، بشرط أن نعود لعالمنا الأرضي ونحن ناسين تماما كل ما شهدناه ،فننسى فعلا، لكننا نشعر أننا نعرف، دون حجة، أو قرينة، فقط هكذا –ببساطة- نعرف.
وبعد لحظات ملأها النغم والحماس من الناس من حوله، وصلت الأغنية لمقطعها الأخير:
قد ما عمري يطول يا حبيبي
حاستناك علی طول يا حبيبي
ليلي نهاري بقول يا حبيبي
ياللي ماحدش قالك ع الشوق اللى انا فيه
بكره الشوق يوصلك وتجرب لياليه
كنت مندمجة جدا مع معنى البذل الروحي، والانتظار الأبدي للحبيب والذي يعلي قيمة الإيثار، وتذكرت أنه من أولى تصنيفات الإغريق للحب "حب أغابي" وهو يعد نوعا من أنواع الحب الروحي ويتميز بنكران الذات، والحب غير المشروط، ولكن الإغريق رأوا بعد ذلك أن قلة من الأشخاص فقط،هم من بإمكانهم الشعور به على مدى طويل.
ولكن اندماجي سرعان ماتبدد عندما وصلت الأغنية لجملة (بكره الشوق يوصل لك وتجرب لياليه)، وأحسست فيها نوعا من التوعد، تهشم على أعتابه الكثيرمن معان الزهد والإيثار والحب الروحي الذي تفانت به الكلمات قبلا، وهو ما جعلني أتمتم في سري: (جاتها نيلة اللي عايزة خلف)، وعذري في ذلك أن "النيلة" -على خلاف مصدرها الفرعوني- يمكن اشتقاقها أيضا من النّيْل والنوال.