ماما ما بك؟!
تسألني ابنتي ملتاعة. أنتبه أني –رغم ارتعاشة جسدي- أبكي دون صوت.
قبل سؤالها بدقائق كنت قد قرأت أخبار الإفراج عن عدد من معتقلي الرأي، وذلك بعد سنوات قضوها في الحبس احتياطيًا، أو قضاءً لعقوبات إداناتٍ مثل نشر أخبار كاذبة أو تهم كالإيحاء! صورهم بعد الإفراج عنهم وهم يحتضنون أبناءهم وأصدقاءهم -بابتسامة تعافر- تصيبني بألم لا أفهمه! أليست أخبارا مفرحة؟! ضمن العناوين، يوقفني خبرٌ عن محاكمة يقبع في قفصها رجل تجاوز السبعين من عمره، انتخبه -في زمن غير بعيد- أكثر من أربعة ملايين مواطن، على أمل أن يكون ممثلا لهم، ولم يكن. ليمارس بعدها حقه الطبيعي –أو ما يفترض به أن يكون طبيعيا- في إعلان مواقفه وآرائه التي قد توافق، أو لا توافق، من يسمعها، فإذ بالماضي القريب يؤرّخها كذريعة أدّت لسجنه احتياطيًا بضع سنيين، لتأتِ المحاكمة -أخيرًا- بحكمها الذي جاء -ويا للهول- مطابقا لما عوقب به مجرم -في خبرِ آخر- مدان باغتصاب خمس فتيات!
(إيمو)؛ تطبيق إلكتروني، حملته لي ابنتي على هاتفي وهي تقول لي: سيساعدك يا ماما على تسجيل مشاعرك في كل لحظة.
غضب؟!.. لا.. أبحث بين الاختيارات عن مرادف حنق!
لكني لم أبْكِ.
يصادفني مقطعٌ مصورٌ من نفس المحاكمة، بعد انتهاء النطق بالحكم: يقف المرشح الرئاسي السابق -المدان الحالي- في القفص، بجانبه شباب مدانون أيضا بأنهم يفكرون ويقولون ما لا يعجب الجميع. ينادي أحدهم على زوجته؛ يطمئنها بعد صدمة الحكم. يجتمع سائر أحبائهم حول القفص؛ يحاولون تقبيل أياديهم ورؤوسهم، ويتبادلون اللمسات الخاطفة والشّمْشَمات السريعة، يفعلون ذلك رغمًا عن بلادة الحديد وكل أمر ومأمور بالحول بينهم.
حينها فقط بكيت.
"هل أصبحت آليات هذه الأحكام ونتائجها عادية مهما كانت اسثنائية؟! لماذا لم ينتفض قلبي إلا عندما نغزني ذاك الإحساس بالحرمان؛ إحساسهم. لم تنهمر دموعي إلا عندما شقّ جوفي ظمأهم للمكوث مع أحبائهم، ووخزتني لهفتهم وهم يسابقون الثواني في عناق الأنامل، وتقبيل الجبهات، والمحاولة -المستميتة- لملامسة الأكتاف والتربيت عليها. هذه اللحظات التي تذكرني ببشرية المناضل، وشوقه، وتوقه، وإشفاقه على أحبائه؛ تؤلمني وتعتصر قلبي أكثر من سجنه أو حتى تعذيبه، لأنه على الأغلب كان يتوقع ثمن مواقفه مسبقًا، وربما كان يهيء له نفسه، لكن الضريبة التي يدفعها أحباؤه هي ما تظل دينا غير قابل للسداد يثقل كاهله، ويؤرقه، وربما - لا سمح الله- يكسره.. وهي أيضًا ما تكسر قلبي. قد يراهم البعض –بالاقتناع أو بالإخضاع أو الاستنطاع- مُدانين مستحقين للسجن، لكن لن ينكر أحد حقيقة أنهم يُعاقَبون بسبب آراء أعلنوها سِلميًا، ويدافعون عنها؛ دفاعهم عن مبادئهم وقناعاتهم، ويتحملون في سبيل ذلك ما يتحملوه -دون فرار أو مساومة- رغم الغلو والمغالاة. يعجز عقلي عن إدراك شجاعتهم، بقدر ما يشعر قلبي بتهدج نبضهم، وهم يقوِّتونه -إلى أجل غير معلوم- بتلك اللحظات المسروقة من عمر الظلمة!"
أردت أن أكتب السطور التي خلت تعليقا على الفيديو، لربما ساعدتني الكتابة في احتواء مشاعري. لم أكتب؛ عاودت فتح التطبيق الإلكتروني. حزن؟!.. لا.. أبحث بين الاختيارات عن مرادف للكمد!
-حبيبتي لا تقلقي. أنا بخير، قرأت خبرًا أحزنني عن أسر تتألم وهي تفقد أغلى ما تملك.
-ربنا سيعوضهم يا ماما. تبكين كثيرا بسبب الأخبار! عندي فكرة؛ ما رأيك أن نذهب لمكان بعيد في الصحراء أو في جبل، لا يوجد به شبكة؟ ننقطع فيه قليلا عن تلك الأخبار وتتوقفين يا ماما عن البكاء.
أشفقتُ على ابنتي من بكائي المباغت -لي ولها- والذي بات يتكرر كثيرا في الآونة الأخيرة. في صباح نفس اليوم كنت أبكي أيضًا وأنا أشاهد مقطعا آخر لمست9طنٍ في أواخر العشرينات، يعتدي بوحشية على مرابطة- قد تكون في عمر جدته- في القدس المحتلة. تمنيت لو كنت أقف بجانبها حينها؛ لربما دفعته عنها. تذكرت أن صهاينة آخرين، قبل أيام، كانوا على بعد عشرات الأمتار من بيتي في الهرم يحيون حفلا بمناسبة "استقلال" كيانهم والأصل أنها نكبة بلادنا! صحيح أني عرفت بخبر الحفل بعد انتهائه يومين! -فلم يُذع خبره إلا بعد أن تم وانتهى!- لكن ذلك لم يوقف التساؤل؛ وماذا لو عرفت قبلها؟!
-سأفكر جديا في اقتراحك يا حبيبتي. تصبحين على خير.
***************************
ننزع لكم "رضوى" على فوق الامتان
ونعبر بها موج البحور بحنان(1)
كان دليلي يتغنى بقول "الوليعي" وهو يرغّبني بالرحلة لجبال رضوى. يحدثني عن شلالاتها، وزعترها، وعن عسلها الحُرّ؛ من نحل حُر! وحين ذكّرته بوعورتها، وارتفاعها، وما تتطلّبه من المسير بين الصخور لساعات، هذا فضلًا عن كل من يحوم حولها ويقتحم غوْرها من الذئاب وحيوانات البر، قال لي:
وأنّى لنا ذلك الصرير وتلك الكركرة التي تجْلي الحِس والروح إن لم تنسب مياهها بين الصخور؟! وهل لها دون الخطر والتعب، أن تكون مضربا للمثل والغزل، فيقول فيها "ابن ثابت"(2):
لنا حاضرٌ فعمٌ، وبادٍ كأنهُ
شماريخُ رضوى عزةً، وتكرماً
سألت؛ لو كان شاعر النبي بيننا اليوم فبم يا ترى سيصف حاضرنا؟
ثم تذكرت؛ ذلك الفتى الذي قفز بأقصى قوته على المستوطن -إياه- وأرداه أرضًا، ليردّ للسيدة المرابطة حقها، وليرد لرئتي نفسا مكتملا، فيَشفِ صدور قوم مؤمنين. تذكرت أيضا كيف فرّ بعدها المستوطن فزِعا هو ومن معه. تذكرت المشهد بملء فؤادي كما أمليت منه ناظريّ حينها، وتساءلت من جديد؛ هل أستطيع يوما أن أقاوم مثل أولئك الأطفال، والفتية، والفتيات، وحتى الجدود والجدات! أولئك الذين لا يتوانون عن المغامرة بما يملكون، ولا يتقاعسون عن التضحية بما يستطيعون. يرفعون أحذيتهم تارة في وجه العدو، وتارة أخرى يطلقوها للغُدوّ! وإن كانت العصي للاتكاء، فهي في أيديهم قادرة على هشّ جنود الاحتلال، وإن كانت الحجارة تقيم البنيان، فهي بين أناملهم، رشقات تصيب كل مغتال، وإن كانت الزجاجات لشرب المياه الغازية، ففي سواعدهم قادرة على حرق مدرعة غازية! وإن لم يتبق لهم سوى أجسادهم، فإما أن يتسمروا بها في أماكنهم، وكأنهم يقولون:(قاعد.. مش متزحزح عنها)، وإما أن يطيروا بها، ليهبطوا على لهيب القنابل والرصاص، علّهم يخمدوه، بأجساد تغطينا وتفدينا، فصح أن يُقال عنهم: (راقد.. مش متزحزح منها).
لنا حاضرٌ فعمٌ، وبادٍ كأنهُ
شماريخُ رضوى عزةً، وتكرماً
يبدو أن شماريخ رضوى ستظل شاهدة، راسخة، باقية، حاضرة في كل حاضر؛ تجسّد مثلًا لهؤلاء المقاومين، يصفها الشعراء، فيصفوهم، وبقدر ما تَخْلدُ القصائد وتتجذر، بقدر ما يفرّ المعتدون، ويرحلون.
أسير خلف دليلي، فإذ بها تظهر أمامي فجأة، يكاد قلبي يقفز من بين ضلوعي من هول المفاجأة والفرحة، رأيتها بعينه، قبل عينيّ، أبصرها، ولازال النظر لا يصدق، ولا يدركها!
أتابعها وهي تتنقل بين الصخور والمرتفعات بخفة وسرعة، وكأنها تحلّق فوقها لا تتسلّقها! أقترب منها بخطوات مرتعشة، أتحقق من أنها هي...
يتبع
**********************************************
(1)من أبيات الشعر الشعبية التي تتغنى بجبل رضوى وبثباته ورسوخه.
(2) الشاعر حسّان بن ثابت، وهو الملقب -بعد دخوله في الإسلام- بشاعر الرسول.