قراءتي لكتاب "من علم عبد الناصر شرب السجائر؟" للكاتب #عمر_طاهر:
إصدار: دار الكرمة
لم أشعر يوما برغبة في تجربة السجائر؛ وذلك لم يكن فقط بسبب أضرارها الطبية التي أفهمها أكثر من غيري؛ بحكم دراستي، ولا حتى للاعتبارات المعنوية التي قد تدين امرأة مدخنة في مجتمعنا، ولكن ببساطة لأني لا أتعاطف مع رائحة التبغ، لكني أعرف تأثير النكوتين الأوّلي على الجسم، وذلك كقدرته على زيادة معدل ضربات القلب، وتسارع الأنفاس، وشحذ الحواس وزيادة اليقظة الذهنية، وهو ما تطابق حرفيا مع تأثير قراءة هذا الكتاب.
كنت بعد قراءة كل فصل "أتنهد" حرفيا، وكأني دخنت لتوي سيجارة محشوة، بكم لا يُستهان به من المشاهد والمعلومات، يقول الكاتب أنه استقاها من هوامش كتب التاريخ، والأخبار والصحف، لكنها في حقيقة الأمر تسرد متن واقع سياسي، ثقافي واجتماعي، عشناه ونعيشه لحظة بلحظة وهو لا ينفصل بحال من الأحوال عن الواقع السياسي.
لا يمكنك أن تقرأ هذا الكتاب بمعزل عن تاريخ عمر طاهر في الكتابة وكل إسهاماته الأدبية والفنية، وحسه الشعري المميز، ومقدرته السردية المتفردة، وباعه الكبير سينمائيا وغنائيا، وبالتأكيد لا يمكنك أن تتجاهل انتماءاته الفكرية وانحيازاته التي يعلنها دوما بوضوح ودون مواربة، فاتحا بابه الذي لا يوجد خلفه ما يخفيه.
لكنه هذه المرة، وقبل البدء في قراءة الكتاب، طلب من القارئ أن يدخل معه غرفته الصغيرة، وأن يغلق الباب وراءه، تاركا سائر المنزل بالخارج، متجاهلا كل مشاحناته وتوتراته، ليستمتع فقط بالجلوس معه أرضا ويشاركه في بناء قطع المكعبات في هذا الكتاب، كوسيلة لالتقاط الأنفاس.
أود أن أعترف أني دخلت الحجرة وأغلقت الباب، ولكني لم أتمكن من قراءته دون أن أسمع في صفحاته أصداء أصوات عالية اقتحمتني من كل أنحاء البيت، برغم كل محاولات الكاتب المستميتة في جعل الكتاب عملا فنيا ممتعا لأقصى درجة، كلوحة بازل، أو قطع مكعبات -كما ذكر في مطلع الكتاب- استثار في مخيلتي كل جين فني ورثته، وكل خبرة اكتسبتها، أستعين بهم في قراءته، على أمل مجاراته في إيقاعه الإبداعي، أو حتى مستمتعة ببعثرة القطع كما أشاء دون محددات أومدخلات مسبقة.
فوجدت الكاتب مثلا: وقد صاغ عناوين الفصول على طريقة التساؤلات، التي تثير الدهشة أكثر من الاستفهام، فتجده في عناوين أحد الفصول يطرح سؤالا لا يمكن أن يخطر على ذهنية نمطية، ولا حتى ذكية، " ما الذي يمكن أن تتعلمه المرأة الذكية من تنظيم الضباط الأحرار"؟ مطلع هذا الفصل استطاع أن يقتنص مني ضحكة قوية، لم أستطع تبريرها بصدق كامل، حين سُئلت عن سببها، ولن أستطيع الآن أيضا تبريرها، ومن قرأ الكتاب أو سيقرأه وحده هو من سيعرف السبب.
أتى محتوى الفصول زاخرا بالمشاهد والسرد وتحليل الأخبار التي تبدو متناثرة أو مبعثرة، لكني لمست صلابة كل فقرة قبل أن تسمح ببدء ما بعدها، فلا يغادر المقطع مفضيا لما بعده إلا بمنتجة "مونتير" يعرف جيدا ما يقوم به، ومهما تباعدت نطاقات المواضيع، إلا أني لم أكن أشعر بالنقلات، ليس هذا فحسب، بل وكأن خيطا خفيا يجعل المواضيع متصلة بشكل أو بآخر، وكأي سيناريست محترف، استطاع الكاتب -في كل مرة- بعد انطباع المشاهد في مخيلتي لعدة فقرات، أن يعيدني لسؤال قد يكون طرحه في الفقرة الأولى، فيجيبني عليه، هذا بعد أن أكون قد بدأت بالفعل في تدوين إجابتي ذهنيا.
تجسد لي ذلك جليا عندما بدأت مثلا أولى فقرات الكتاب بالحديث عن عبد المنعم مدبولي ودوره في فيلم الحفيد ثم انتقل الكاتب لتخيله لمشاعر عبد الناصر في أيام تلقيه للعلاج بموسكو، ومحاولة تفنيد ما يمكن أن يكون قد مر به من أفكار وتساؤلات، ومن بينها مثلا هل كان الأب الذي يتمناه؟ وربما للوهلة الأولى ظننت أن المسافة بين عبد المنعم مدبولي، وعبد الناصر كالمسافة بين السماء الأرض، لكنها في عين عمر طاهر، التي ترى بشفافية كبيرة كل التفاصيل خلف كل معلومة بسيطة، حتى تتقاطع المسافات، ولا تعود الحدود بين السماء والأرض واضحة، فهو هنا رصد في عبد الناصر نفس ما جسده عبد المنعم مدبولي في الحفيد، رآه أبا منهكا، يتساءل إن كان قام بدوره كما كان ينبغي أو لا؟
نجح الكاتب باقتدار في إضفاء طابع فني، واجتماعي، وترفيهي على الكتاب، يبدو للوهلة الأولى كما لو كان مجردا، خاليا من الأهداف، إلا أني لم أستطع إغفال أعواد الثقاب التي كان يلقيها بين الفقرات، تاركا الخيار للقارئ كي بشعلها، فيستمتع بسيجارته حتى آخر نفس، أو يتركها ملقاة على الأرض مكتفيا بالأشكال البديعة التي يستطيع تكوينها.
اتقدت في مداركي أعواد ثقاب قضايا مهمة، وحساسة، وهي أصيلة ومتجذرة في مفردات الجدليات المصرية، قضايا مثل: الفرق بين مشروع جمال عبد الناصر، وبين تجربته، الموقف من اتفاقية السلام وزيارة أنور السادات للقدس، دور الفن والفنانين في حياة السياسيين، وبالتبادل دور السياسة وتدخلها في حياة الفنانين واختيارتهم لأعمالهم، دورالصحافة والمؤسسة الدينية واستخدام الصحفيين والدين في دعم مواقف الحكام، وتمكينهم من الحكم، وما إذا كان التسلط سمة تخص الحكام الديكتاتوريين فقط؟ أو أن كل من له يد طائلة وعلى أي مستوى يستطيع أحيانا أن يكون متجبرا وسلطويا؟ وهل يكفي أن يكون الحاكم وطنيا يمتلك رؤية لينجح؟ أم أنه يحتاج لعمل مؤسسي، غير مرتكز على فردية الحكم والقرار؟
ضمن تلك القضايا والتساؤلات الصعبة برز بعنفوان كبير، مواضيع عديدة لاتقل عنها أهمية مثل سمات الشعب المصري وما يميزهم وأنهم بحسب ما ورد في الكتاب: (الشعب اللي "بيشبرق" رغم صعوبة العيشة، أصحاب البيوت التي تسكن تحت الجلد ولم تستسلم يوما!) ، قرأت في الكتاب أيضا سمات مصر وكل ما تنعم به، والثورة المصرية وما مهد لها، هذا ولم تخل السطور من طيف أفكار صوفية تتأمل الاحتفاء بالحياة دون تعلق، وتعيد رسم الصورة التي انطبعت في أذهاننا عن الموت وكيف ارتبط ذلك بعنوان أحد الفصول: " لماذا اختار الفراعنة أن تكون الجنازات مناسبة للاحتفال؟".
هذه القضايا -على حساسيتها- تسربت إليّ بمحض اختياري؛ بدون أي تكلف أوافتعال في السرد، وهي ليست السابقة الأولى لكاتب استطاع من خلال مجموعة قصص كتبها في "أثر النبي" أن يجعل القارئ بانسيابية تامة يقرأ الأثر النبوي بقلبه، وتلافى الولوج في قضية لا رابح فيها، وهي: إشكالية قراءة التراث بالنقل أو بالعقل؟
وهو ما يؤكد ما أشار إليه في أحد فصول الكتاب عن خطورة دور الفن، وأهمية أن لايكون مباشرا، أو كما أشار في فصل آخر:( أنك ممكن تبعد عن الشر، ولكن لن تغنيله مالم "تقنيله" أي تجعل بينك وبينه قناة).
سيتخلل المقاطع سرد عن حياة الكاتب، وفقرات تناولت جدته وأقاربه وأصدقاءه لكنها وبنفس المقدرة المبهرة، تم تضفيرها مع ما سبقها وما تلاها، بشكل يصعب فهمه، ويصعب أيضا فكه! بخفة دم ( حيث تأمل الكاتب مصطلح "خفة دم" في الكتاب، فالدم الخفيف هو المتدفق بالحياة والذي يسهل جريانه في العروق) وهي واحدة من ضمن عشرات المصطلحات والعبارات والهوامش التي لم تتوقف طوال القراءة عن مفاجأتي.
من يقرأ لعمر طاهر سيعرف أن له طابعا مميزا جدا، فهو يكتب بلغة عربية رشيقة ومنسابة للغاية، لكنها كبدلة رياضية من "ماركة" عالمية باهظة الثمن، لايستطيع أيا كان ارتداؤها، وتقديم ما يقدمه بكل هذا التمكن، والأسلوب السهل الممتنع، لكن أكثر ما يميز هذا الكتاب هو ما استعرضه الكاتب نفسه في أحد المقاطع حين أورد فيها (أن الوقت يكشف لك جريمتك، أو براءتك) وما كتبه عن لسان "سيد حجاب": ( تريد أن تحكم على عمل إذا كان ناجحا أو لا، انتظر حتى يمر عليه عشرون سنة). أعتقد أن عمر طاهر بهذا الكتاب تحدى الوقت والسنوات، وأظن أنه يوما ما بعد سنوات سيأتي من سيؤرخ لهوامش التغيير النوعي في أفكار المجتمع، وسيكتب عن هذا الكتاب في المتن منه.
كتاب أهداه عمر طاهر في آخر صفحاته –على غير المألوف في كتابة الإهداءات- إلى بيتر (أو من أسماه بيتر) صاحب المحراب والقصة الخاصة التي تعلمت منها أن الحرية موهبة نكتسبها، وليست هبة تُمنح إلينا، وأزعم أن غرفة الكاتب التي داعانا لدخولها -في بداية الكتاب- لم تكن في رأيي أقل رحابة من محراب بيتر، وكان ما فيها إهداء لمصر كلها، فقط.. عندما نفطن كيف نشعل أعواد الثقاب، ونتعلم شرب السجائر!