مرقت الذكرى أمام زهر وهي ترمي نظراتها بين إرثها الأعظم الذي بالكاد يُرى حائط غرفتها خلفه، لوحات والدتها غِصن، باعت منها الكثير، لكنها أبقت على ما يحمل مذكرات وذكريات غِصن، ودموعها والفقد الراقد بالخطوط، وبقع جذابة لكنها بالأغلب عبرات غصن السجينة كانت تتحرر فقط على صفحة اللوحات، تلك العشرينية التي فقدت زوجها بحادث سيارة، وفقدت ما تبقى منها بحادث حياة، تدفقت الدماء بجسد زهر، وهي تتذكر كم عانت والدتها ظلم جديها لأبيها، وكيف أسقطا عنها كل حقوق الحياة، والحرية تزامنًا مع خلع الأقنعة، خلعا عنها رداء الفرح، وأبقيا عليها بطقس الحداد الطويل
-كم هُزمنا يا زهر !
نطقها نور وهو يجلس إلى الأريكة بغرفة شقيقته التي أسندت رأسه إلى ضلوعها
-ثم ماذا يا نوري!! هَزمنا من ظنوا أنهم انتصروا قبلًا، نحن بخير طالما نتنفس صوتها وعطورها ..
لم تجعلهما غصن يشتاقا لوالدهما يومًا، تحكي كل تفاصيله كل يوم طيلة خمسة وعشرون عاًما، ولم تمل، لم تتركهما لحظة قدت شبابها لترى مقامهما عزيزًا، كيف يمكن أن يشتاقا لها إن ابتعدت فهما مزيجًا واحدًا فقط ينتظرا اللقاء، لا تبتعد ولن تبتعد.
تلك اللوحة وضعتها زهر بمكان قصي بالغرفة، مميز، بإضاءة خاصة ، قصدها نور، وغص حلقه ألمًا
-كيف تحملت؟
اللوحة جسدت العم، وهو يجذب نور من يدي غصن، كان ابن السادسة، وزهر بالثامنة من عمرها، تمسك بطرف فستان أمها، تخبئ وجهها وأذنها رعبًا من هدر الصياح.
تصور اللوحة أحد الأيام الغائمة بحياة غصن الباردة، محاولة فاشلة منها للهرب من أشواكها؛ لكن هيهات
لم يحرر غصن سوى نورًا طائرًا إلى السماء اسمه العدل، ميزان الله الذي يرد الحق .
يدي غصن تكبلت لأعوام بجيد من القهر، وقلة الحيلة وآلام الحلق لابتلاع الشكوى والصراخ.
القرع مرعبًا على الباب، لكن لمن مضغ الرعب، والقلق الأمر يختلف زهر اللوز لم يرجف لها يسار، وابتسم نور وهو يهز رأسه مطمئنًا، ذهبا معًا إلى الباب، وكان العم الغاضب كما توقعا، الذي فقد أباه الظالم منذ خمس سنوات
لكن يتضح الحال على ملامحه، أنه أتى بحصاده منه حقد، وقسوة
-ما الذي جاء بكما إلى هنا؟
يوجه سؤاله الغاضب لزهر، وكأنها هي المحرض كالعادة هي السوء الوحيد بهذا العالم، هي التي عاشت طفولتها تدافع عن كونها إنسانة، تثبت لهم أنها تستحق الاهتمام كأخيها، ترثي لحالها من إهانات لا تفهم لها سبب، وتعاني الرعب المزمن بسؤال لم يتركها يومًا، ما الحال إذا الحائط الأخير بحياتها انهدم؟؟؟
إذا آخر لمحة ضوء انطفأت؟؟؟ كلما مرضت غصن، أو بكت، أو تنهدت رأت زهر نفسها تحت أقدامهم إذ صارت يومًا دونها، لكن هذا الرعب تغير وتبدل لتكن الأقوى روحًا وإيمانًا.
أجاب نور بعنفوان وهو يعدل من خصلات شعره الطويل قاصدًا إزعاج عمه، يتذكر صفعته جيدًا حينما كان يرفض تقصيره
-بيت أمنا
وتسلمت زهر اللوز طرف الحديث لتكمل، وهي تلف ذراعها حول خصر أخيها
-والله إنا انتصرنا لها، وخرجنا بمال لوحاتها من أسر أموالكم وأراضيكم تلك التي استبحتم إهانتها وهي كرامة تمشي على الأرض، كانت تحاربكم سرًا بفنها وهي تطبخ طعامكم، وترتب قذارتكم، انتصرت عليكم وهي شبح الآن يقض مضاجعكم لك منا السؤال، وصلة الرحم كما ربتنا غصن وإن لم ترد منا وصالًا فلا بأس، تحمل وزرًا آخر على أوزاركم، لتثمر لغصن أشجارًا بجنة الرحمن تلك التي زهدت، وربت وتحملت مقابل من تجبر وظلم وقهر، هنيئا لكم بعقاب السماء وحقوقنا يرجعها القاضي لا تقلق، لن نترك لكم ما كافحت من أجله غصن، أرض أبينا.
اتسعت عينا العم، زهر اللوز المرتعبة، البكاءة، المهزوزة لفرط ما كانوا يستهزؤون من ضعف بنيتها وملابسها أصبحت بتلك القوة! أدرك حينها الحقيقة في حين كانوا يحاربون غصن كانت هي تعد العدة ليوم رحيلها، تسقي شجرة الكبرياء، التي تثمر قوة، وثبات بصدريً طفليها حتى شبًا دون أن يلحظ الجميع جذور تزهر الأخضر الزاهي.. تركت غصن انتقامًا نسجته بأناملها، وهم من ظنوا أنهم بتروا أطراف حياتها، ظنوها كسيحة القوة، لكنها كانت تجهز ببضع لوحات حصان طروادة الذي هدم قلعتهم، فارقت حياتهم تاركة لزهر ونور أمان يمنحهما ما لم تنله، القدرة على الاختيار، والرفض.
استضعفوها وتركتهم بظنهم، أسمتها زهر اللوز يبدو رقيقًا وكأنه لا يحتمل أبدًأ لكن قوة غصن أمنت صلابتها وأبقت على صبيها نور مضيئًا لا يعرف عتم أو انطفاء.
أُغلق الباب وذهب العم الحائر متى ؟؟
متى فعلت وكيف فعلت وأين اختفت ؟
ومن أعلى البناية سقطت بكفه التي رفعها وهو يتعجب بقعة لون زهرية رفع بصره لم يرى شيئًا لأن بصيرته العمياء أظلمت بصره عن الثلاث الملتصقين عند سطح البناية يسخرون منه حد أن ريشة غصن بصقت على حماقته وهي تحتضن جناحيها.
،،تمت