اليوم الجمعة 5 مايو وافتنا الأنباء برحيل الروائي (حيدر حيدر) صاحب رواية وليمة لأعشاب البحر، تلك الرواية التي عاصرنا ضجتها والزلزال التي أحدثته لا في الأوساط الأدبية وحدها، وإنما تعدت أزمتها سياسيا وأمنيا.
أطاحت هذه الرواية والضجة التي أثارتها بموظفين كبار في وزارة الثقافة المصرية، ولكنها لم تقترب من الوزير في شيء، لأنه كان وقتها ذا نفوذ وتأييد من سيدة مصر الأولى .
لكن ومع موت حيدر حيدر وبعيدًا عن المؤيدين والمعارضين، أقول بعض الاستلهامات:
إن رواية الوليمة لحيدر، تعد أكثر الأعمال التي كان لها دوي كبير في الساحة الأدبية والفكرية في مصر بعد كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، وتحرير المرأة لقاسم أمين، ومن هنا نبدأ لخالد محمد خالد، بل تعد أكثر تأثيرا، لأنها كادت أن تشعل ثورة في البلاد كما صرحت بذلك وقتها إذاعة لندن، الكثيرون يلقون باللائمة على الجماعات الدينية وأنها التي هيجت البلاد، وأثارت الفتنة، ولكن الواقع يكذب هذا التوجه بصورة واقعية، فالمعركة كلها انحسرت في جامعة الأزهر وبين طلابه، ولم يكن للصخب حضور في جامعات مصر المعروفة وقتها وإنما جامعة الأزهر فقط.. فهل انحسرت الجماعات الدينية في جامعة الأزهر فقط؟ وهذا بالطبع غير صحيح، فقد كان لهم حضورهم المشهود في الجامعات المصرية الأخرى، وذلك أمر طبيعي فالأزهر هو المؤسسة الدينية، وطلابه هم دارسو الشريعة والدين، ومن ثم تولوا كبر المعركة.
صحيح ان صحفهم كانت لها الاسهام الأكبر، لكن المسألة ارتمت برمتها في أحضان الازهر وطلابه.
لقد سقط عدد من الطلاب وجنود الأمن جرحى وكانت فتنة عاصفة، ما زلت أتذكر أحداثها إلى اليوم، وأتذكر كيف خرجت صحيفة الأهرام يومها بمنشيت كبير وفيه صورة بوابة المدينة الجامعية الأزهرية بمدينة نصر، وبالبنط العريض: (القاهرة تحترق والحكومة تتفرج)
بل أثبتت الرواية أن مصر لها الحضور الثقافي والفكري العنيف، فلم يحدث في بلد عربي مثل ما حدث فيها من ذلك الهياج الشعبي الكبير، والذي يدلل على عمقها ووعيها وحضورها الثقافي.
فقد قدمت طلبات إحاطة عاجلة في مجلس الشعب وعلت أصوات المفكرين والعلماء الكبار وعلى رأسهم د- محمد عمارة الذي طالب بمحاسبة المسؤولين في وزارة الثقافة الذين أهدروا أموال الدولة فيما يخالف دين الأمة وهويتها.. كما كان للدكتور أحمد عمر هاشم موقفه المشرف وقتها، فلم يصمت ولم يرض.
والحق أن ما حدث يومها رغم أنه كان ينذر باضطراب شديد، إلا أنه أعطى شيئا إيجابيا ومهما ودقيقا، وهو يقظة الحس الديني لدى الجماهير الغاضبة، التي هبت منكرة لما يسيء إلى دينها وعقيدتها، وكأن الرواية بمثابة عملية جس نبض لهذا الحس، أخمل أم أنه متوهج كنار تحت الرماد.؟!
نقطة أخرى مهمة وخاصة بالناحية الأدبية، إذ نرى قطاعات العلمانيين واليساريين والملحدين، من قاوموا تيار المحافظين والمتدينين في أمر الرواية بدعوى حرية الإبداع، وأن الرمزية الأدبية لها مطلق الحرية، والحق أن ذلك ممكن وموجود وقد يكون كذلك مقبولا، لكنني أريد أن أسأل سؤالا للنقاد والأدباء: ما حكم ذلك الأديب والروائي الشيوعي أو الملحد، الذي يجسد أفكاره في رواياته وقصصه، ليروج معتقداته ورؤاه؟ هل أيضا يندرج حتى حماية الرمزية وحصانتها؟
إنني أقول من قديم: إن حصون الرمزية الأدبية تتداعى وتسقط أمام هيبة الدين وقدسية الوحي، فهو المنطقة المحظورة التي لا يجب للرمزية أن تلعب في ميدانها أو تقترب منها، فالدنيا أمامها فسيحة واسعة، لها أن تعبث فيها بما تشاء وكيف تشاء، لكن عند الدين فلتتوقف منابع الإبداع، لأنها في هذا الوقت، تخرج من حيز الإبداع إلى حيز الإلحاد والانحراف.