الشهامة والمروءة أحيانًا تشعر أنها صارت أخلاقًا غريبة أو عملة نادرة، من كثرة ما ترى من مشاهد الغدر والدناءة والخيانة والخسة والنذالة.
وهي الملامح التي تقتل نوازع الخير في نفس كل إنسان فتضطره أن ينكفئ على ذاته، فلا يُبادر بأي خير يقدمه للناس، لأنه أيقن أن هذا الزمان لا يستحق أحد فيه أن تقدم له أي خير.
وهي النقطة التي قد تبدو جوهرية ومنطقية تتصادم مع رفض الإسلام لها حينما أمر المسلمين أن يقابلوا السيئة بالحسنة، ويحسنوا حتى لمن أساء إليهم، وهنا تكون قيمة الأخلاق وقيمة السمو الذي تعتليه النفس وتمتطيه حفاظا على عنصر الخير في الحياة، ومما ينسب إلى عيسى بن مريم عليه السلام قوله: "إن الإحسان ليس أن تحسن إلى من أحسن إليك إنما تلك مكافأة بالمعروف ولكن الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك"
ذكر احدهم قصة مليونير بدأ حياته عاملا في محطة بنزين، واستطاع في أثناء عمله أن يتعرف إلى أصحاب السيارات، وذات يوم توقفت سيارة وعجزت عن الحركة واستنجد به صاحب السيارة ولم يهمله أو ينصرف عنه أو يقول له : «أنا موش فاضى». بل ترك كل شيء في يده وتفرغ للسيارة المعطلة، وتحركت السيارة وأعجب المليونير صاحب السيارة بالشاب النشيط وعرض عليه أن يعمل في جراج يملكه، وقبل الشاب ووافق على المرتب البسيط الذي عرضه عليه المليونير، وبعد شهور أصبح الشاب مدير الجراج، وبعد سنوات انتقل مديرا لاحدى الشركات التي يملكها المليونير، وبعد وقت أصبح الشاب شريكا للمليونير، وبعد سنوات من الصبر والكفاح أصبح مليونيرا.
لم تكن هذه ضربة حظ لهذا الفتى، او حظا سعيدة كان معه على موعد منشود، وكذلك لم هذه النتائج العظيمة مكافأة كفاح وعمل واجتهاد أبدا وعلق به، وإنما كانت في المقام الأول ثمرة شهامة ومروءة وعمل خير دفعته إليه أخلاقه العالية.
ولعلها قصة نتعلم منها أن نندفع إلى قضاء حوائج الناس، ومساعدة كل محتاج، دون انتظار أجر أو ترقب حظا تتوق إليه أشوقنا المتطلعة إلى الثراء، وإنما نفعله ابتداء، لأنه خلق وجب أن نتصف به وجدا جزاء أم لم نجد، فيكفي أن يكون الجزاء سعادة تهلل لها أرواحنا، وأجرا أكيدا يدخره الله لنا.
وإذا كان بعضنا قد ساعدته الشهامة ان يجني من اثرها حظا ماديا، فهناك سهامه تخلف في ركابها حظا معنويا أعظم في أثره من الدنيا وما فيها.
كيف هذا؟
انظر لهذا الموقف الذي حكاه الدكتور مصطفى الفقي عن العالم والمفكر الجليل الدكتور عبدالجليل شلبي، حينما كان مديرا للمركز الإسلامي في لندن في السبعينات حيث قال: "حكى لي د. عبد الجليل ذات يوم قصة لا أنساها.. فقد قال الشيخ الوقور إنه كان في مكتبة المتحف البريطاني، منذ يومين، ورأى الفتاة المسئولة عن القسم الذي يقرأ فيه ويصور الوثائق منه، وهي تبكي، فسألها عن السبب، وعرف منها أن مخطوطاً عربيًا مهما يبدو مفقودًا، وأنها قامت بالتفتيش عنه لعدة ساعات دون جدوى؛ ربما لأنها لا تجيد العربية، وأظن أن ذلك الكتاب، كان هو - إن لم تخني الذاكرة - (الفتوحات المكية لابن عربي)، ومضى د. عبد الجليل شلبي يروي لي أنه هدأ من روع الفتاة، ودعا الله أن تجد المخطوط المفقود، ثم سألها: متى تنتهين من عملك ؟ فقالت له: في الخامسة مساءً، فقال لها: سوف أحضر هنا، ونبقى معا لكي أبحث معك بين الكتب؛ لعلي أجد المخطوط المفقود، فشكرته ووافقت على العرض الطيب، الذي يمكن أن ينقذها من عقوبة الفصل من العمل.. وبالفعل جاء الشيخ في الخامسة مساءً، وشمر عن ساعديه، وبدأ يفتش باحثا عن الكتاب في أرفف القسم الكبير، في المكتبة العريقة والفتاة ترقبه في قلق.. وقد ظل كذلك لأكثر من ساعتين، ثم صاح قائلا لها: لقد وجدته، فانخرطت الفتاة في البكاء مرة أخرى بدموع الفرح، وأكبرت للشيخ المصري شهامته ومعونته لمن يحتاجه في الظروف الصعبة.
وعلمت منه بعد ذلك أن الفتاة ظلت على تواصل دائم به، وكانت تناديه بكلمة يا أبي، وبدأت تقرأ أكثر عن الإسلام ذلك الدين، الذي يجعل من أتباعه الحقيقيين من هم مثل هذا الشيخ الأزهري، ولم يمض إلا عامين، وعلمنا أن الفتاة أعلنت إسلامها، وبدأت التبحر في دراسة الشريعة الإسلامية والقراءة في أصول الدين.. كما ظلت تحكي لكل من تعرف قصة النجدة الإلهية، التي جاءتها من خلال ذلك الشيخ المسلم."
ما أجمل هذا، فما أكثر العلماء الذين قدموا للإسلام كتبا وأسفارا وعلوما، ولكن قليل منهم من أسلم واهتدى على يديه مهتد جديد، آمن بروعة الإسلام من أخلاقهم.
إنها الشهامة التي ملك بها هذا المفكر الجليل ثوابا هو خير من الدنيا وما فيها، مصداقا للحديث الشريف: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم. أو خير لك من الدنيا وما فيها) . متفق عليه عن علي رضي الله عنه.





































