رأت مؤخرا في أخبار الجاهلية، "أن بعض لصوص العرب الأقدمين كان يسرق ليقوت نفسه ومن يلوذ به من الفقراء، وكان من هؤلاء العداء الماهر عروة بن الورد، الذي كان يغير على أصحاب الأموال، ثم يعود من غاراته بغنائم، يشبع منها الجياع ويؤوي الضائعين! وكان يقول لامرأته إذا نفد ما عنده: ذرینی أطوف في البلاد لعلني أفيد غنى فيه لذي الحق محمل!!
كان ذلك في الجاهلية الأولى، والشخ مطاع والزكـاة مـجـحـودة، لا وحي ولا دين الناس حسب غرائزهم وميولهم !" وذكر كاتب أنه في طفولته سمع قصة تجرى على ألسنة الناس من أن امرأة ضعيفة قتل ولدها مظلوما فماذا تصنع؟ لقد ذهبت إلى أحد الفتاك تبثه حزنها وتشكو عجزها وتناشده أن يقف إلى جانبها، فقال لها الشقى الكبير: سأقتل خصمك لله، لا أخذ منك شيئا.!
فما أزها السخرية حينما تتدلل بأنباء هؤلاء.
أليس ما فعله عبد الناصر وعدوانه على أراضي الملاك من ذوي العائلات الكبيرة وتوزيعها على الفلاحين، جانب من السرقة تحت غطاء العدالة الاجتماعية، وأنا أعرف أن هناك من يستعد الآن ليزأر كما يزأر الأسد وهو يقرأ هذه الكلمات، لكنه الحق الذي لا مرية فيه، فقد اغتصب الرجل حقوق الملاك، ليصنع لنفسه شعبية، ويظهر أمام بلاده في صورة البطل والزعيم، الذي يعيش للشعب ويحمل همومه.. لقد برهنت الأيام أن عبد الناصر كان يحمل حقدا رهيبا ضد الأثرياء والباشاوات، حقدا تدفع إليه عقدة النقص قبل أن يكون حب العدل.
ما زلت أتندر للآن حينما وقع الاختيار على أحد شخصيات رجال الأعمال ليدخل دائرتنا الانتخابية ويمثلنا نائبا في مجلش الشعب، لقد كان يشاع عن الرجل أنه لص، ويسطو على أموال الشركات ويقتنص الحرام من الصفقات، ويمارس الخديعةةفي تجارته في الشرق والغرب.
فلما رأى من يحيطون به من المردة والمنافقين، أن هذه الشبهة يمكن تطيح به، وتذهب بسمعته ومستقبله النيابي، أشاعوا بين العامة والبسطاء مقولة بلهاء، تضحكك تارة، وتجعلك مذهولا تارة أخرة، من هذه العقول الملتاثة، التي صارت تقبل الحرام، وتروي مبرراته من قبيل الحكمة البالغة.
أتعلم ماذا أشاع الخبثاء على الجهلاء؟
لقد قالوا لهم: نعم لقد وقف النائب يوما حينما اتهمه أحدهم وقال له: يقولون إنك سارق، فقال له: نعم أنا سارق، ولكني أسرق من أجلكم، أسرق من الغير لأعطيكم وأمنحكم.
كنت في هذه الجلسة ورأيت بعض البله يرددون مثل هذا السخف، وهم في قمة السرور من الرد المفحم والحكيم، ولا يدرون أنهم يعلنون عما استقر بأجوافهم من وفاة الدين والضمير والإنسانية والمروءة في قلوبهم.!
كيف ترضى لنفسك أن تأكل من الحرام وتنتفع بالحرام وعلى حساب غيرك من المقهورين، الذين سلبهم اللص الحقير حقوقهم.؟!
ما أبشع الإنسان حينما يموت وعيه، وينعدم ضميره، ويفلس شرفه.!
إن أمثال هؤلاء كراقصة تتعرى بالليل لتفتن الناس، تلهب الشهوات، وتُسيل لعاب الغرائز، ثم تعدوا في الصباح، لتوزع الصدقات والأطعمة على الفقراء والمحتاجين، حتى يبارك الله عملها، ويزيد من شعبيتها، ويمنحها بريقا أكثر في مفاتن جسدها.
يمكن للجوع أن يسوق الناس لأكل الحرام، حتى أن ديننا العظيم راعى هذه الطامة، وكان حكمه الذي أدهش الألباب حينما أسقط الحد عمن دفعتهه الهلكة والموت جوعا أن يسرق.
وفي الوقت الذي كنت أشاهد فيه رواية البؤساء لفيكتور هيجو، وكيف ساقت المحكمة التي تجردت من الرحمة والإنسانية جائعا فقيرا لأنه سرق رغيف خبز إلى غيابة الجب، وحكمت عليه بالأشغال الشاقة، والسجن الذي سقطت فيه كل معاني العدالة والرحمة.
في هذا الوقت تذكرت ثورة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما عطل الحد في عام الرمادة.. فقلت ما أعظم حضارتنا وأسمى تراثنا عن فرنسا التي يضربون بها المثال اليوم في تقدير كرامة الإنسان.
أرأيتم الرحمة.. وهل يمكن أن نقتبس مثل هذه المعاني من تراثنا العظيم لنفحم به شياطين العلمانية، ومردة اليسار والملاحدة، الذين يطعنون كل يوم في تراث أمتنا وعظمائها.؟ !
ثم يقولون وهم يتصايحون: لا كهنوت في الإسلام، وأبيدوا تراث الكراهية والتخلف.!
أي كهنوت أيها الحوش، وهذا حكم الله يعطل من أجل الإنسان، هل رأيتم مثل هذه العظمة وهذا التسامح في دين من قبل.
هذا هو الدين الأوحد في العالم، الذي سير الجيوش من أجل الفقراء، ومنذ أزمانه الأولى ورجاله الأول، حينما حاربوا مانعي الزكاة، قبل محاربة المرتدين.
إن المعالم المضيئة من ديننا تتعامى عنها بصائر العلمانيين، التي لا تألف إلا النتن، وتحاول أن تجعل في الفضيلة خللا ونقيصة، لكن تراثنا غير هزيل أن يمحق بذاته، هراء هؤلاء جميعا، ففيه من معالم الإشراق ما يعجز عن الوصف والتقييم.