عشت في السعودية 13 سنة من أهم وأخطر مرحلة في حياتي، عقد الثلاثينات كله، قضيته فيها بحثا عن العمل والرزق ولقمة العيش، انطفأت فيها زهرة شبابي وماتت متعتي، ولم أعرف فيها نغم الشباب، بما تهواه نفسي.
قبح الله من أفقرنا وساقنا لندفن أنفسنا في قبور الأرزاق.
والمملكة لا أعيبها في شيء، فلها فضل علي ومنها منحني الله المال الذي أواجه به شظف الحياة وضيق العيش، ومقالي ليس في تفضيل بلد عليها ولكنها مشاعر مغترب لا أكثر ....السعودية لها فضل علي ولولاها لكنت فقيرا ذليلا أتسول بين الناس لقمة عيشي وما أستر به نفسي.
لكنني أعترف أنني لم أحب وجودي فيها يومًا من الأيام، كنت أضيق بكل مكان فيها حيث أشعر بالاغتراب الموحش، حتى بعض شبابها ورجالها، ما كنت أشعر معهم أبدا بمعاني الأخوة التي حث عليها الإسلام، ودعت إليها وحدة العروبة والدين، اللهم إلا القليل منهم، من كنت أجد فيهم فعلا معنى هذه الأخوة، وتعلق بهم قلبي إلى اليوم، ومازلنا على اتصال ووئام يفوق الحد.. ولعلهم يحزنون مما كتبت، ولكن عليهم أن يعلموا أني أحبهم وأذكرهم وأمنحهم من قلبي كل ود وتقدير.
وهم على قدر محبتي لهم، وودهم لي، أتعجب أنهم نبتوا من رحم هذا البلد الخشن، الذي لم يتعلق به قلبي، اللهم إلا مكة والمدينة فتلك دنيا أخرى وبقعة مسلوخة من دنيا الجفاء والهموم.
ولو أنني حكيت بعض ما مر بي من المواقف والأزمات، مما كان فيها ظلم وجور، لأعذرني القراء فيما كتبت، وكذلك ربما لامني البعض الآخر، لو ذكرت ما مر بي من خير وحسن معاملة، ولا يخلو أبدا أي مكان مهما كنت تضج به، من الخير والإحسان ولمسات البر والرقي في التعامل.
لقد كان كل يوم يمر علي، أشعر أن عمري يضيع، وأنني أقضي فيه فترة سجن أو نفيي جزاء عقوبة جنتها يداي، وكنت دوما أدعوا الله الكريم أن ينهي حياتي هناك وينتشلني من هذا الألم والضيق، وكنت أتساءل حزينا: هل سأظل طول حياتي هنا منفيا، أعمل كالآلة الصماء، لا كالإنسان الذي يريد أن يشعر بمعنى الحياة والإنسان.
العمل والبيت والسيارة.. وحدهم هو ما تعرفه في حياتك هناك.
لا شيء آخر يمكن أن تمارسه لتسعد وتشرق وتنتشي.
لا شك أنه كانت هناك مكاسب أخرى، فقد أتاح لي عملي أن أسافر إلى مناطق العالم المختلفة، وأتيح لي أن أنعم بالحرمين الشريفين وأؤدي فريضة الحج، بل أتاحت لي وحدتي فيها، مزيدًا من القراءة والكتابة.
لكن كل متعة كنت أجدها، كان وراءها من واقع الحياة هناك ما ينغصها ويفسد مذاقي لها.
وأنا لا أعيب هذه البلاد الطيبة، أو أذمها حينما أعبر عن شعوري نحوها، لكن ذلك ربما يرجع إلى طبيعة شخصيتي الحالمة الشاعرة الحساسة، التي ارتبطت بوطنها رباطا قويًا متينا، يعز عليها فراقه إلى غيرها.
ما كنت أبدا أخفي هذا الشعور بينهم، فقد قلت لهم كثيرا: هل تظنون أنكم فعلا تعيشون فعلا معنى الحياة؟
إنكم تفقدون متعة الحياة الحقيقية، إن أحدكم لا يستطيع أن يمشي في الشارع ويأنس بالناس، ويُحيي هذا ويشير إلى ذاك، أنتم لا تعرفون في بلادكم غير الأماكن المغلقة والحرارة الصعبة، التي تحبس حريتكم وتكبت انطلاقها.
لكني أكرر مرة أخرى: إنه مهما كان نفرتي من جوها، فإنها لا شك صاحبة فضل علي، حتى لا يتهمني أحدهم بالخسة وقلة الأصل.
وحينما رجعت إلى بلدي، شعرت أنني ولدت من جديد، رغم ما أجد من ضيق العقول وغلاء الأشياء.
كنت أحدث نفسي دائما: لو قدر لي العيش والهجرة إلى بلد أجنبي ودولة غربية، فهل كنت سأجد من أجد من الفقد والوجد والاغتراب؟!
أعرف أن هناك مصرين يجدون بهذه البلاد، سعادة ويشعرون فيها بهناء لا يجدونه في بلدهم، من النهضة والتطور، لكن هذا شعوري ورأيي وحكمي.. فلتعذروني فيه.
وقد تدهش حينما تجد في هذه البلاد تدينا وحشمة و وقارا والتزاما.. ثم تجد هذه المعاني الجافية في نفس مقيم.. والذي هو أنا.. كانت هناك ملامح جميلة ومواقف طيبة، وأياما لاشك سعيدة، يجب أن تذكر من باب الإنصاف، لكنني لا أنتقد ولا أنتقص، وإنما هي مجرد مقالة تعبر عن خاطر كاتب وشعوره، الذي استوى سوئه في نفسه أكثر من رضاه، وليست مقالا ينتقد بلدا أو يفضل عليه بلدا آخر، فأنا مؤمن أن كل بلد في عين صاحبها خير الأوطان وأبهى البلدان.