تلمح بدقة أن من يتخرجون من كلية اللغة العربية الأزهرية يكونون في كثير من الأحيان، أشد وأقوى من ينافح عن الإسلام ويصد عنه، يتفوقون في هذا الميدان حتى على العلماء الذين تخرجوا من كلية أصول الدين أو كلية الشريعة.
تلحظ هذا حينما تتعرف على أحدهم فتعلم أنه خريج كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، وكان منهم العلامة الكبير محمد رجب البيومي والإمام الراحل محمد متولي الشعراوي، وكان اليوم خاتمتهم فضيلة العالم الجسور وسيف الله المسلول د- إبراهيم الخولي رحمه الله، الذي شاء القدر أن نعاصره ونرى على يديه مصارع القوم من بني علمان.
وأنت يا مسكين قد تحسب أن موت الدكتور إبراهيم كموت رجل عادي، لكن زمرة الضلالة تعلم وتدرك بعمق فداحة النبأ وجلبة الحدث، وأنهم اليوم في قمة انتشائهم، لأنهم يبصرون الساحة الإسلامية وقد فقدت ركنا أصيلا من أركانها وحارسا يقظا من حراسها، وجنديا شديد المراس عنيف الطعان من جنودها المخلصين.
فقد حبا الله سبحانه الدكتور إبراهيم قوة الحجة، وصولة البيان، وترتيب الأفكار، وطلاقة التعبير، والثقافة الواسعة الغزيرة، التي أعجزت خصومة، وهم يرون أنفسهم أمام عملاق كبير. وفوق ما كنت ترى من قوة حجته، وروعة علمه، كنت تشعر بروعة الاستماع إليه بما يأسرك به من نبرة الصوت التي تشع قوة وثقة وصقلاً وحضورًا.
وصدق سيدنا الدكتور النبوي شعلان، والذي حدثني بقوله: إننا في مناسبة اليوم العالمي للأزهر انتشرت جملة (أزهري وأفتخر) ومع مناسبة موت الدكتور إبراهيم لعلنا نقول: لا يكفي أن تفتخر بالأزهر، بل ما أجدى أن يفتخر بك الأزهر. وصدق شيخنا النبوي، فالعلامة الخولي من الشخصيات العلمية الفريدة، والعقليات الفكرية النادرة التي يعتز بها ويفخر بها الأزهر.
الدكتور إبراهيم الخولي لم يكن من الشخصيات الشهيرة شهرة الشيخ الشعراوي مثلا، ولا يعرفه الكثيرون من أبناء مصر، لكنك ومع الاستماع له ولو بحلقة واحدة تدرك أنك أمام شيء هائل جبار، وأمام رجل ليس بهين، وأمام كتيبة من العلم والفهم يصعب هزيمتها أو التغلب عليها من أعدائها.
ولقد كان من عوامل دهشتي الكبيرة هذا التحول الكبير في حياة هذا الرجل العملاق، وكذلك تصيبك الدهشة حينما تعلم أن هذا الرجل الذي يمثل اليوم سيفا حادا من سيوف الإسلام القاصمة، كانت له وجهة أخرى ومأرب مغاير.
يحكي أستاذننا الجليل دكتور محمود خليل في إحدى لقاءاته مع الدكتور إبراهيم فيقول:
"ومن أطرف هذه اللقاءات.. أنني قسوت مرة بشدة علي الجليل العلامة الفارس د إبراهيم الخولي.. إذ قلت له: إنك كنت أحد أمهر العرابين لكل ما تهاجمه وتسحقه اليوم؟!
فانتبه بكل تحفز، وأشار بسبابته التي مدّ بها ذراعه إلي السماء متسائلا: كيف ياغلام؟!
( لقد تزببت وأنت حصرم )؛!!
فقلت له: لقد كنت محاضرا تقيفيا ماهرا بالتنظيم الطليعي، وكان من طلابك المناوشين لك , الطيار صلاح شعيب (ابن شقيقة الأديب عبد العال الحمامصى) وكذلك أخبرني أخي الأكبر المهندس فتحي خليل ، أنك وحسين كامل بهاء الدين المعيد بكيلة الطب، ورفعت المحجوب المدرس بالحقوق، وجمال هدايت..
كنتم جميعا من الكوادر التثقيفية بالتنظيم الطليعي، وأنتم الذين حقنتم الشباب، ودجنتموهم بما تحاربونه فيهم اليوم.
فإذ بالجليل العلامة الفارس.. يشيح بظهر يده ملوحا في الهواء، قائلا بصوته النحاسى العذب الجهير:
كنا حميرا كباراً،. أيها الجحش الصغير
وضجت الجلسة بالضحك المشبع القرير
وأبى الكبير إلا أن يكون كبيرا."
ودعك من روحة الطيبة وجميل فكاهته في تعقيبه على كلام الدكتور محمود، ولكن انظر واشخص ببصرك لمراد الله وفضله على هذا الرجل، حينما خرج من هذا المستنقع الآسن فلم تتلوث نفسه بشبهاته وأمراضه وقذاراته، ومن عليه بإخلاص الوجهة والعمل في سبيل الله، وخدمة دينه والدفاع عن هويته.
كنت أتمنى من الأزهر أن ينعيه ببيان خاص، لكن حسنا فعل رئيس جامعة الأزهر د- سلامة داوود في نعيه ورثائه الذي فاض حبا و وفاءا من تلميذ لأستاذه.