هل تتخيل هذا العجب حينما يتساوى صاحب دار نشر بتاجر من تجار المخدرات الذين يضرون المجتمع والوطن أبلغ الإضرار؟
بل إنهم أحيانا يكونون أكثر خطرا من هؤلاء التجار إذ هم يهدمون ذوق الناس وعقول القراء وثقافة الشعب بما ينشرون من كتب تحمل ألوان المفتريات والأكاذيب، ولا هدف لهم إلا التربح والكسب المادي على حساب الحق والحقيقة والأخلاق والفضيلة؟!
ما أبشع الناشر حينما يكون همه في التربح وحده، ولا موازين عنده للدين والقيم والضمير والأخلاق، إنه يحيا بين الكتب بلا مبادئ أو قيم، لقد كان من أقبح الناشرين الذين قابلتهم، ذلك الناشر الذي طبع كتابا لمؤلفة تهاجم الحجاب، ويحرض نساء مصر على خلعه، وإذا بالهجوم على الكاتبة يستعر، وتحاصرها الانتقادات، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، رأيت الناشر بنفسه يخوض معركة الدفاع عن الكتاب والكاتبة، يقاتل باستماته عن هذا المشروع السفيه الذي مات يوم أن ولد، حتى أخبرني أحدهم أن هذا الناشر نفسه هو من دبر مادة الكتاب ونسبه إلى تلك المرأة التي لم نسمع او نرى لها في يوم من الأيام شيئا مكتوبا.. لقد وصل الأمر بالناشر حد التطاول والإسفاف ضد من يهاجمون الكتاب، واتهم بعضا منا بأنهم كتاب درجة ثالثه، وقد حاولت الرد عليه، لكن الأيام وحدها هي من ردت عليه، فذهب كتابه وكاتبته في صندوق القمامة وإلى سلة المهملات، وظل لواء الحجاب خفاقا مرتفعا على رؤوس النساء.
لقد وقفت خاشعا أمام موقفين عظيمين ذكرتهما الكاتبة الكبيرة القديرة (صافي ناز كاظم) في واحدة من حواراتها الرائعة، وأحببت الاستشهاد بهما لإيماني أن أي ناشر يمكن له أن يتأثر وتتغير خلائقه أمام هذا السمو المرموق.
أما الموقف الأول فجاء على لسان الحاج (وهبة حسن وهبة) صاحب دار وهبة للنشر والتوزيع في حكايته للكاتبة عن الفترة التي ظهر فيها كتاب من هنا نبدأ للأستاذ خالد محمد خالد، وأحدث دويا كبيرا يقول وهبة: "وكان الأستاذ خالد محمد خالد قد تخرج وعمل مدرسا وطبع كتابه (من هنا نبدأ) ألفين نسخة وأعطاه لي للتوزيع، لأكثر من 20 يوما لم أبع سوى نسختين ثلاثة إلى أن كتب كاتب مقالا في أخبار اليوم يهاجم الكتاب ويقول: إن خالد ينادي بما نادى به على عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم، وقرر الأزهر التحقيق مع المؤلف وسحب منه العالمية، بعد هذه الضجة الألفين نسخة اللي عندي طاروا، بعتهم كلهم، كان الكتاب بعشرة قروش، جاءني خالد محمد خالد وقال عايزين نطبع طبعة ثانية فقلت له: لأ! خالد صديقي لكن الحكاية أصبحت مبدأ وإسلام، خالد كان مستخسر إن فايدة المكسب تروح لحد ثاني، لكن أنا رفضت، فخالد راح مكتبة الأنجلو واتفق معهم، خالد كان رجلا نظيفا وشريفا وعفيفا، لكن لما الأنجلو طبعت الكتاب ثلاث طبعات في سنة واحدة والكتاب اتباع"
لقد سجل وهبة موقفا تاريخيا في الانتصار للأخلاق والفضيلة، وآثر القيم والمبادئ على التربح الذاتي والمال الذي تسيل له لعاب الكثيرين ممن لا يقيمون أي وزن للأخلاق.. الله أكبر فما اروع رد وهبة على خالد المسالة اصبحت مبدأ وإسلام، وأنا هنا أتذكر ذلك النكرة الذي دافع كتاب سفيه صفيق يحاد الله ورسوله، وقام بطباعته والترويج له دون أي بصيص من تقوى وإيمان، وتحت مسمى تلك الفقاعة الواهية، حرية الفكر والتعبير.
ثم إليك الموقف الثاني والذي لو وضعه كل ناشر أمام عينه، واعتد به لكان من أصحاب الرسالات، ولجعل سبيل النشر من خطى الأنبياء، عمل وهبة في مكتبة الشيخ محمد رشيد رضا، دار المنار في مطلع عام 1933، قبل أن يبلغ العاشرة، وكان الشيخ له بمثابة الوالد، ويذكر وهبة حادثة غضب الشيخ رشيد رضا لأن الشيخ زكي - كان يعمل في المكتبة مع رشيد- لم يلب واحدا من طلبات الكتب: "قال الشيخ رشيد رضا هذا طلب كتابا فلماذا لم ترسله؟ رد الشيخ زكي قائلا: يا مولانا هذا الرجل طلب منا كتابا من قبل ولم يسدد ثمنه، انتفض رشيد رضا بالغضب منفعلا: أتريد أن تدخلني النار يا شيخ زكي؟ تمنع العلم من أجل المال ياشيخ زكي؟ هل أنا أسأت إليك في شئ حتى تؤذيني؟ ... وظل يؤنبه ثم صاح: ياولد، ويا ولد لا تعني أحدا سواي، فالمكتبة ليس بها سوى الشيخ زكي والولد هو أنا وهبة، قلت: نعم سيدي، قال: إمش هات الكتاب وضعه في غلافه وأرسله بالبريد فورا لطالبه، نفذت الأمر وكنا جميعا نرجف، فالشيخ زعلان هذه كانت بالنسبة إلينا يعني القيامة قامت، عن حب لا عن خوف، كانت الحكمة ألا تمنع العلم أبدا؛ هذا لا يجوز، تعلمت منه ألا أحبس العلم لأجل المال؛ أرسل الكتاب لمن يطلبه قبل الدفع وتستمر المطالبة بثمنه بعد ذلك"
ويال السخرية، رشيد يخاف أن يدخل النار في حق من حقوقه، ويرسل الكتاب لمن يطلبه قبل تسديد الثمن، بينما لدينا ناشرون يسرقون الكُتَّاب ولا يعطونهم أي حق بعد أن ينهبوا أموالهم بحجة طبع الكِتاب.
أيها الناشرون.. اتقول الله.






































