لكل منا في حياته إنجازات وأعمال يعتز بها كلما تذكرها بين حين وآخر، ولعلي اليوم أحكي لكم عن موقف من هذه المواقف الشامخة في حياتي والتي أعتز أنني كنت سببا فيها والمحرك الأساس لجلبتها.
حينما سافرت إلى المملكة العربية السعودية عملت صحفيا في قسم الإعلام بالندوة العالمية للشباب الإسلامي في فرعها بمدينة جدة، والحمد لله كنت متميزا جدا حتى أنني في أول عام لي نلت درع الموظف المثالي.
كانت الندوة العالمية للشباب الإسلامي مؤسسة دينية خيرية دعوية عالمية عملاقة ومازالت إلى اليوم ولها بصماتها الخيرية والإنسانية التي تغطي كل شعوب الأرض، وكان من أبرز نجاحاتي في قسم الإعلام بها حتى بقيت بعدها الصحفي الأوحد في الندوة العالمية، والذي تقوم عليه كل أعمالها ومطبوعاتها الإعلامية، هو أنني كنت أركز على شيء مهم لم أر أحدا قلبي ركز عليه أو اهتم ببواعثه.
كانت تأتيني أعمال خيرية كثيرة جدا للندوة في كل مكان، وكنت مطالبا أن أعد لها تقارير وأخبارا إعلامية تنشر في صحف المملكة بالتعاون مع بعض الصحفيين في كل صحيفة، ولاحظت أن أحدا لا يلفت نظره ولا يركز على القصص الإنسانية التي تحدث في برامج الندوة وأعمالها وحملاتها الخيرية، وصرت أسائل مدراء مكاتبنا في كل دولة أن حدثوني عن أي موقف إنساني حدث مع جائع أو فقير أو محتاج او مسكين، حتى أبني عليه قصة إنسانية مؤثرة حينما يقرأها المتبرع تنهمر دموعة وتستحث نفسه على بذل المزيد من الأموال.
وعلى هذا صرت وكان عملا ورؤية فاعلة وموفقة، إلى أن جاءت هذه الحادثة وجاء هذا اليوم الذي لا أنساه ابدا.
في عام 2009 ضربت مدينة جدة سيول عنيفة جرفت البيوت والمنازل ودمرت الطرق وحصدت كثيرا من الأرواح، وكان لابد للندوة كمؤسسة شبابية خيرية أن تتحرك على الصعيد الداخلي للعمل الإغاثي، وكنت أنزل إلى الميدان كصحفي أرصد وأوثق عمل الندوة وجهودها الإغاثية، وكان يتوافد على مقرها كثير من المتضررين من السيول ومن جنسيات مختلفة للحصول على إعانات ومساعدات رُصدت لحالاتهم.
ويوما ما كنت في العمل ليلا، بعد صلاة العشاء، فوجدت اتصالا من الاستقبال بأن هناك شاب باكستاني يريد أن يحصل على إعانة مادية ويريد الدخول ليلتقي بأي أحد لهذا الغرض، فطلبت من الحراس الإذن له بالدخول، ولما دخل الرجل وصعد إلى مكتبي في الدور الثالث، رحبت به وطلبت منه الجلوس حتى أدبر له مقابلة مع المسؤول عن الإعانات، وكان هذا الشاب يتكلم العربية بنحو مفهوم، فأخذت أسأله ماذا بك وما مقدار الضرر الذي لحق بك.؟
قال لي: الحقيقة أنني لم أتضرر ولكن كان لي أخي أصغر مني واسمه فرمان علي خان، حينما انهمرت السيول واحتجزت المارة في الطرق أخذ يقاوم المياه لينقذ كثيرا من المحتجزين، حتى تمكن من إنقاذ عدد كبير منهم، وفي إحدى المرات لم يستطع أن يقاوم حتى جرفه السيل العنيف ومات غريقا.!
كان الشاب يحكي قصة أخيه وكل هم المسكين أن يحصل على 500 او 600 ريال يرسلهم لبنات اخيه، بينما أنا ذهبت في عالم آخر.. ولا يعلم صاحبنا أن القدر ساقه لمن سيكون سببا لان تفتح الدنيا له ولأسرته ذراعيها… كان الشاب يحكي بينما أنا أتخيل قصة بطل وليدة ستنسج أحداثها ويعلن ميلادها على يدي، خاصة بعدما أعملني أنه ترك خلفة زوجة وثلاث بنات يتيمات وأراني صورهن.
تأثرت جدا من الموقف ومن المشهد ومن القصة وعلى جناح السرعة طلبت منه أن يمليني كل ما ذكره وما حكاه وأسماء زوجته وبناته، وأملى على الشاب كل ما أريد، وانصرف عني إلى من يريد لقاءه وطلبت منه رقم هاتفه حتى إذا أردته في شيء استطعت الحصول عليه.
كان الفتى يطيعني في كل كلامي ولا يدري ولا حتى أنا كنت أدري أنني سأفعل شيئا يهز المملكة برمتها، إذ كان الجميع متعاطفا مهتما بأحداث جدة المخيفة المفزعة.
وبعد أن مشى الشاب وأعطاني صورة فرمان وصور أطفاله وصورة إقامته وجواز سفره، بدأت أكتب أحداث قصة مأسوية ورواية محزنة، لشاب هاجر إلى المملكة من بلاده الفقيرة طلبا للرزق وسعيا على بناته الصغار، فإذا بالقدر يسوقه لحتفه ويلقى ربه شهيدا، بطلا أفنى عمره في سبيل حياة غيره، وأقبل على الهول والمهالك غير هياب أو خائف.
وبعد أن كتبت القصة ودبجتها وأعملت في سطورها ومحاورها بأسلوب أدبي قوي.. اتصلت بصحفي في جريدة الرياض كنت أتعاون معه وأرسل له الأخبار وقلت له خذ هذه القصة الإنسانية من وحي أحداث سيول جدة لعلها تجد صداها في النشر.
وفعلا نشرت القصة بعيد يومين.. وبعد نشرها انقلبت الدنيا رأسا على عقب، كل الصحف في العدد التالي أفردت صفحات ونصف صفحات عن البطل فرمان على خان، كلها تحكي ما ذكرته وبنفس الصور التي أرسلتها والأسلوب الذي كتبت به في الحديث عن بطولته وإقباله على الموت حتى يفدي المحاصرين، وانتقل الحديث من الصحف لتتحدث عنه البرامج والنشرات وتعقد حلقات خاصة عن فرمان وعمله البطولي وخاصة أن القدر ساق بعض أصدقائه ليلتقط له مقطعا مرئيا أثناء إنقاذه للمتضررين المحاصرين إذ كان يحملهم على كتفه ويعبر بهم في المياه إلى بر الأمان.
المملكة كلها لم يعد لها حديث إلا عن فرمان البطل الباكستاني على أرضها.
وانتقل الحديث من الإعلام إلى القيادة السياسية، فتم الاتصال بسفارة المملكة في باكستان وطلبها العاجل بإحضار والد فرمان لتأدية العمرة ومثوله بين يدي الملك، وتكريمه بتسلمه وسام الملك عبد العزيز أعظم أوسمة المملكة العربية السعودية وأرفعها، مع مبلغ ضخم من المال يصل إلى مليون ريال حسبما أذكر.
وبالفعل تحقق الأمر وقدم والده وتسلم وسام الملك عبد العزيز وتحدثت عنه كل وسائل الاعلام لا في المملكة وحدها، بل في كل وسائل الاعلام الباكستانية كذلك.
كنت سعيدا لأنني أنا الذي أطلقت الشرارة التي حركت الدول والوزارات وأجهزة الإعلام.. كنت مسرورا لأنني استطعت بتوفيق الله أن أصنع شيئا عظيما لثلاث بنات يتيمان صغيرات سيخرجن إلى الدنيا دون أن يجدن أبا يساندهن ويقف بجوارهن أمام محن الحياة.
ألا ترى معي أنني أنجزت شيئا عظيما؟!