من أنكر ما رأيت في ساحة المكتوب، أقلاما ما أجدر أصحابها أن يكونوا مفكرين أهل رأي ونظر، ولكنهم حينما أطلوا على هذا الميدان المذكور، فوجدوا السوق فيه رائجة لمن يكتب القصة والرواية، فإذا بهم ينحرفون عن مسارهم ويهيلون التراب على موهبتهم الحقيقية، ويتنكرون لوجودها، فيخدعهم الحال كما يخدع الشيطان بني آدم ليسيروا في الغي الذي لا يجب لهم أن يسيروا فيه.
عرفت مؤخرًا كاتبة نجيبة، ورأيت لها بيانا وفكرا ودينا ورأيا وثقافة رصينة وتربية مذهلة على كتب الأصالة العقلية، لكنها كانت تتحرق وتحزن وتكاد تبكي من رتبة لم تنل فيها ما تريد.
قلت لها ما الأمر؟
حدثتني أنها تشارك بعض التجمعات الأدبية في كتابة القصة القصيرة، وكلما كتبت، كلما رفضوا بيانها، وتعللوا بنقد واه لا يرقى إلى حقائق النقد في شيء، وكانت تعرض علي ما كتبت، وتعرض علي كذلك ما كتب الفائزون المتميزون.
تقول لي: بالله عليك أستاذي، قارن بين أسلوبي وأسلوبهم، بين حرفي وحرفهم، هل ما كتبوا يتفوق على ما كتبت؟
والحق أن شعورها بالحسرة كان في محله، فقد كان ما كتبه أندادها لا يداني ما كتبت، وقد تعجبت كيف للقوم أن يتنكروا لهذا الأسلوب ويرفضوه ولا يرونه أدبًا يستحق الفوز والتصدر.
لقد كان من أدهى ما نصحوها به، أن تتخلى عن لغتها الفخمة، ويدعونها بإلحاح إلى التبسط والتساهل.
هل لك أن تتخيل حينما تنشأ مثل هذه الكاتبة على عيون التراث، ويكون لها قسطها الوافر من كتب الفكر الإنساني، ولديها بصر عميق بكثير من القضايا التي يمكن أن تتكلم فيها برأي.. ثم هي تُعرض عن ذلك كله مخدوعة حينما تغريها أحلام الأغرار.
أيتها الكاتبة إن لك مكانة أخرى في عالم الكتابة أفسح وأعظم وأجمل، وهي من الأدب بمحل الرياسة والسيادة، فلماذا تعرضين عن ثوبك الذي يليق بك، وتصرين على ارتداء ما لا يناسبك، أو يوافق طبعك وتكوينك.
من غرك بهذه الأحلام، وعقّد في عقلك الأمور، وأراد أن يحبسك في عالم لا تجدين فيه ذاتك الحقيقية، لقد ضيقت لا شك واسعا.
وإليك أسوق تجربة مماثلة.
هل تسمعين عن تولستوي
لقد كان كاتباً نابهاً تردد الدنيا بآثاره، ويتحاكى به صفوة المثقفين فى عصره ! وبلغ من الشهرة والجاه والأدب في عالم يهتف باسمه، ويتحدث عنه أدباؤه حديث الإعجاب والتقدير، ولكن هل تعلمين أن هذا الرجل الكبير كان مخدوعاً عن نفسه مثلك تماما حين اعتقد في شبابه أنه خلق للقصص الفنى يلج مواجه في حلبة الروائيين والقصاص،! إن بذور المفكر المصلح كانت مستترة في البقاع السحيقة من نفسه، وبمرور الأيام أخذ يمدها بعناصر البقاء والنمو حتى تجاوزت الأغوار إلى السطح في من الخمسين، وانطلق ليكون مفكرًا وفيلسوفًا ، وسار في مساره اللائق به، والموائم مع مواهبه وقدراته.
القص موهبة عظمى لا شك في ذلك، ونحن هنا لا نعيبها أو نقلل من قيمة أصحابها، ولكن مواهب الأدب ومناحيه كثيرة موفورة، لا تقف عند القص وحده، وأنت لك ميدانك الفسيح الذي يمكن لك أن تتفردي به وتثبتين فيه ذاتك وينبري قلمك في تقلباته ليون له صولاته وجولاته، فلماذا إذن ترهقين نفسك وتضلين طريقك.
اتركيِ هذا الحقل فليست أرضه خصبة لتنمو فيها بذورك، ابحثِي عن حقل آخر وتربة تناسب مدادك، حتى يزدهر غرسك وتورق أغصانك وتونع ثمارك.
أعرف أن قولي ونصحي قد لا يجد الأذن الصاغية، لأن الهوجة الكبيرة والموضة التي سحرت عقول الشباب اليوم، لا تلتفت إلى غير هواها، لكن الحصيف من يدرك موقع قدمه ويتبين أين يستقيم ساقه، فلا يناطح الحقيقة حتى لا يستجلب الفشل.