عبر سياحتي القرائية مع كتابات فضيلة الدكتور (محمد رجب البيومي) الأثيرة، تعلمت شيئا كبيرا ومهما من مميزات الرجل التي أراها تقل في لداته من الكتاب والنقاد والمفكرين، فقد كان رحمه الله يتميز بميزة إعمال العقل أمام كل شيء وأمام كل نص، مهما كان هذا النص، ومهما كان حجم وقيمة قائله، فقد كان البيومي له ذوقه الخاص ومنطقة الرصين وتأمله المتفرد، الذي يتعاطى به مع الجميع، ولم يكن أي كلام ممهور باسم كبير من الكبراء، ليصيبه بالخشية أو التراجع، أو يشل تفكيره عن تحليله ومناقشته والتأمل في مدى صحته أو دقته.
بعض القراء اليوم حينما يقرأ لعالم كبير أو إماما من الأئمة، أو مفكر عملاقا، يدرك أنه بين كتاباته كالطفل الصغير الذي لا عقل له ولا تمييز، ويسلم لكل ما يقوله هذا الكبير ويحتج به ويرى أنه الصواب والصحيح، بل يقيمه حجة في وجه الآخرين، فيقول وكله ثقة: قال بهذا فلان، وكتب هذا فلان، وكأنه قرآن أو سنة! وإذا عارضه معترض يقول له: هل جننت كيف تخطئ فلانا في كلامه؟ لكن الدكتور البيومي كان كل سطر عنده غير الكلام المقدس، عرضة لإعمال العقل والتأمل، والتفكر الدقيق في مدى صحته وسلامته.
وأنت حينما ترى الأسماء الكبيرة التي صحح لها الدكتور البيومي بعض المفاهيم، يصيبك الروع والهول من جسارة الرجل، لكنك لا تستطيع رده أمام ما يسوقه من قوة المنطق وحجة العقل، والحصيف وحده من يتعلم الدرس الذي يريد البيومي أن يقيم كل مثقف على واديه، وهو قيمة العقل الذي ركبه الله فيك، والذي من بعض احترامه ألا تكون أمام أقوال الكبار مسلوب الارادة مشلول التفكير.
الرافعي وما أدراك ما الرافعي وقد كان البيومي من أكثر الناس له حبا ويرى نفسه من مدرسته، وقد ألف فيه كتابا من أروع الكتب، ومع هذا صحح بعض نظراته، ففي كتبا البيومي الشهير البيان القرآني يتحدث عن أقوال مدعي النبوة ومعرضاتهم للقرآن الكريم وما تناقلته الروايات الأدبية في ذلك، فمن ذلك مثلا قول مسيلمة المنسوب إليه: والمبذرات زرعا والذاريات قمحا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا، أو قوله: إنا أعطيناك المجاهر فصل لربك وجاهر، يقول البيومي: "كل هذا تلفيق موضوع تنوقل في الصحف عن غفلة وتساهل لأن من نسبت إليهم أمثال هذه المعارضات، لم يكونوا من البله والغفلة بحيث يقولون ما يبعث على الإضحاك والسخرية ليكون موضوع التحدي وآية القدرة، ثم يسوقونه إلى قوم نقدة ذوي بصيرة، فينالون خذي الفهاهة، ويدركون معرة السقوط الحزين" ثم يقول البيومي: "ولا أدري لماذا احتشد المغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي لما رجف به في ذلك فعد فصلا طويلا في كتابه إعجاز القرآن الكريم، ليوضح الواضح ويحصل الحاصل، حين يعلن أن ما سيق مساق المعارضة كان خذلانا كبيرا وخزيا فاضحا، " ويقول: إن هذه التفاهات لا تثبت أمام بلاغة كتاب عادي فضلا عن بلاغة أفصح كتاب ومسيلمة مهما كان كاذبا عريق الادعاء، فله مكره واحتياله اللذان يمنعانه أن يفضح نفسه بمثل هذا الكلام.
وهكذا تجد البيومي ينكر بروح الناقد ما ذكره الرافعي واعتقد به، ولوكان إنسانا عاديا وقرأ لما جاء في فكره أبدا أن الرافعي يقولا كلاما خطأ أو سطورا يمكن مناقشته فيها أو الاعتراض عليه فيما أثبته.
وفي موطن آخر في كتابه عن الامام احمد بن حنبل إذ يذكر البيومي ما ذكره الرواة أن أحمد بن حنبل قد اتفق مع يحيى بن معين على الذهاب إلى اليمن للرواية عن عبد الرازق، فاتفق أن قابلاه بمكة في حجه، فقال يحيى: لقد توفر الجهد ، لنأخذ عنه الحديث هنا دون حاجة إلى مشقة السفر أو صعوبة الطريق، ولكن أحمد يصر على الرفض، ويصمم على الارتحال.
ثم يقول البيومي وأستاذنا الكبير أبو زهرة –يقصد الامام محمد أبو زهرة في كتابه عن الامام أحمد بن حنبل- يعلل ذلك فيقول : " لقد لاحت له الفرصة التي تغنيه عن الهجرة فلم ينتهزها، وآثر أن يضرب في الأرض مهاجرا في سبيل العلم ولم يرد أن يأخذه رخاء سهلا تسهله المصادفة، وتقربه الفرصة خشية أن يتعود ذلك فلا يركب في سبيله المركب الصعب، ويتحمل العيش الخشن، وقد تحقق ما احتسب فسافر إلى صنعاء وناله العيش الخشن والمركب الصعب، إذ انقطعت به النفقة في الطريق فأكرى نفسه من بعض الحمالين إلى أن وافى صنعاء"
هذا هو النص من كلام أبو زهرة وهو الإمام الجليل والبحاثة النفيس، ومن منا حينما يقرأ لأبي زهرة أن يساوره مجرد خاطر أن يعترض عليه أو يناقش كلامه، إلا أن يكون ناقدا بصيرا كالأستاذ البيومي الذي قال عقب كلام أبو زهرة: " هذا قول أستاذنا الكبير محمد أبو زهرة، ونحن نخالفه ولا نراه، إذ إنه يجعل التعب والمشقة هدفا مقصودا، فأحمد قد تمكن من رواية الحديث بمكة عن عبد الرازق، ولكنه أراد أن يتعب نفسه ، فسافر إلى اليمن دون موجب غير النصب والإجهاد، ولو كان الأمر كذلك لكان أحمد مخطئا في تصرفه، إذ لا يعقل أن يبذل عاقل ما عناء جاهدا دون طائل، لكن ابن حنبل رأى أن مدة الحج محدودة موجزة ، فهي لا تزيد عن أشهر قلائل يتفرغ فيها الحاج إلى مناسكه وصلواته وتلبياته، ولو حدث عبد الرازق بمكة ما استطاع أن يغنم منه جميع ما يريد، إذن فلابد من الذهاب إلى اليمن مهما تكبد المشاق والصعاب"
وهكذا كان ديدن البيومي رحمه الله في كل كتاباته أمام ما يستشهد به وما يقرأه من أراء السابقين واللاحقين، لا يمكن أبدا أن يغيب عقله أمام ما يقع عليه من سطور، وإذا قرأت تراث البيومي كله لوجدت هذه النقدات والتحليلات كثيرة جدا جدا وقد فكرت أن أقوم بحصرها وأجعل لها كتابا خاصا لكن الوقت لا يخدمني ولعل بعض الباحثين من محبي الدكتور البيومي يقوم بهذا الجهد فيقدم لنا كتابا ثمينا يحكي وقفات عقل ثمين، ويعلم به القرآء كيف ينعشون بصيرتهم وينمون تأملاتهم فلا يكونوا أمام مكتوب الكبار كالفريسة بين أنياب الأسد.
وختاما نقول: لا يتحدى الجبال إلا جبل.





































