أنت وأنا نعرف مي بأنها الأديبة المحبوبة، وإذا طرح اسمها أمامك يوما، لا تتذكر أدبها بقدر ما تتذكر تلك العذابات التي اكتوت بها قلوب الكبار من أدباء ذلك الزمان حبا فيها وغراما بطلتها.
كان الجميع يحبها بلا استثناء، كبيرهم وصغيرهم، العقاد بشموخه والرافعي بجسارته.
لكنني اليوم أطرح عليك توصيفا آخر لمي، وحالة مغايرة غير التي استقرت في ذهنك، فهل يمكن ان نعد مي بطلة مناضلة، وشهيدة في سبيل الحق والحرية!
ما هذا العجب، ومن أين جاء؟
وهنا نتعرف على الحالة الخافية عنا تجاه مي، حتى نضعها في موضعها الذي تستحقه.
النفوس القوية التي أصلب الإيمان عودها، وأمتن جذورها لا يمكن أبدًا أن تنخلع لهول التهديد والوعيد، أو ينال منها طائف الهلع والخوف الذي يغرق الشعور بالذعر المخيف فتوشك أن يميتها القلق والفزع قبل أن تغتالها الأسلحة أو تصيبها رصاصات المتربصين.
قد يكون هذا حال كل إنسان يتعرض للتهديد، يترقب ويحذر ويعيش حالة عصيبة من التوتر النفسي المهلك، الذي يتبدى أثره في جسده وعقله فيحرمه الطعام والشراب، بعدما حرمه راحة البال وهدوء الأعصاب.
وهو نفس ما تعرضت له الأديبة الشابة المعروفة التي أحبها الجميع (مي زيادة) فقد علمت ما مرت به من محنة، وأنها لم تعد كما كانت، وأن في أعصابها وعقلها توتر مذهل، جعل كل من حولها يتحسرون عليها ويتذكرون ماضيها الرقراق، وكيف كانت مي قبل ما أصابها وبدد بريق أضوائها.
ولكني طوال فترات طويلة حرت كثيرًا في أمرها، فكيف إذن هبطت عليه هذه اللوثة التي اهتز لها عقلها وخار معها ثباتها، وتبدد بها تركيز عقلها، هل قفز بها القدر الإلهي عليها دون سبب، أم أن لها جذورا وتدبيرا لا نعلمه؟
لم أعرف ولم أصل إلى شيء، بل لم أكن أتخيل أن يكون هناك شيء، فقد غلب على ظني أن يكون مرضًا أصابها كما يصيب غيرها من الناس، قرأت عنها الكثير والكثير فلم يكن هناك ما يشير إلى شيء.. لقد علمت أنها في لبنان تعرضت للعدوان والجور من ابن عمها الذي أودعها مستشفى المجانين، وقيل: إنه فعل ذلك طمعا في الميراث، وكنت ساخطا بشدة، إذ كيف لمجتمع كبير تبرز فيه أديبة مثل مي، وتعطي له قيمه، فترفع ذكره، وتجلب له الفخر والسمو، ثم يتركها ضحية لهذا التجني بلا حماية أو دفاع.؟!
لكن مي كان من أمرها ما كان.
حتى قدر لي مؤخرًا أن أعرف السبب، وأن أقف على الحقيقة التي خفيت علي ولم أعلمها من قبل من مصاب الأديبة الذي جلب لها توتر النفس وخلل العقل واضطراب التفكير.
كانت مي تقدس السلام، وتعشق الحرية، وتناصر حقوق الإنسان، وكانت آية في الإنسانية والشعور بالآخرين، تتألم لآلام الناس وتكتوي كمدا لهمومهم، خاصة ما يصل إلى سمعها من ظلم الحكام المتسلطين وبطش المستعمرين الطغاة، كانت تسري عن نفسها من أثر هذا الألم بحديث تسره إلى من حولها من الناس، حتى دفعتها شجاعتها يوما أن تكتب مقالا في الصحف تحمل فيه على مسوليني وتنتقد سياساته الفاشية التي تعادي الإنسانية.
علمت السفارة الإيطالية وأبلغت روما، حتى مضت سنوات طوال، ظنت معها مي أن الأمر قد انتهى وجرفته أمواج النسيان.
ومن نكد الحظ أن سافرت مي إلى روما وليس في روعها شيء مما كان، لكن إيطاليا لم تنس انتقاد مي وحملتها على طاغيتها موسيليني، وكانت الفرصة المواتية للانتقام والعقاب، فما أن وصلت مي إلى أرض الفاشيست، حتى تلقفتها أعين الجواسيس والمخبرين، وتابعتها الدراجات إلى الفندق التي تقطنه عليها رجال الماليشيا ، وأدركت مي خطورة الأمر، وشعرت بهذا الرقابة الشديدة فارتابت وقلقت وفزعت، خاصة بعدما صارت الأنباء والهمسات تصل إليها بأن هناك عزم لقتلك واغتيالك، أو أنها توشك أن يقبض عليها للمحاكة والسجن، ثم إعدامها علانية في ميدان عام، وظلت مي على هذا الحال المضطرب والظرف القاهر حتى خارت أعصابها ولم تتحمل هذا الضغط الرهيب، وكانت نهاية الأمر أن لجأت إلى السفارة المصرية التي هربتها خلسة إلى القاهرة.
وظنت مي أنها نجت مما أرادها من كيد، حينما فرت بجسدها من إيطاليا، ولكنها نسيت أن تخلف وراءها أو تفر مما أصابها من قلق واضطراب وفزع وخوف، إذ صحبت كل هذه المشاعر معها إلى مصر، أو أنها هي التي تلبست بها واستوطنت وجدانها، فإذا بها ترتعد من كل صوت تسمعه، وتخاف من كل إنسان تراه، حتى إذا مشت في حجرتها أخذت تتلفت ذات اليمين وذات الشمال تتهيأ أن تتخطفها أشباح تخرج من حوائط الحجرة، حتى الطعام إذا تناولته تعرض عنه، خشية أن يكون به سم دس لها ليقتلها، حتى يقنعها أهلها أن تأكل منه اليسير.
سيطرت عليها هذه الحالة من جنون الاضطهاد فصارت تتخيلها وتتلمسها في كل شيء من حولها من الجماد قبل الإنسان، وزاد فيها سعار الوسواس والجنون، فتلفت أعصابها وانهارت نفسها وساءت صحتها حتى فارت الحياة.
وهكذا جُنت مي التي كانت جميلة في كل شيء.
هكذا أصابها الجُنون الذي قطف أجمل زهرة تغنى بها الشعراء والأدباء، وأحبها كل قلب عرفها وجلس إليها.
بل هكذا راحت ضحية الحرية ودفعت ثمن الكلمة الغالية من عقلها وأعصابها بل من حياتها.