إذا عاركتني يوما فاطمئن واهدأ وكن مرتاح البال، فأنا وحد ممن يلتزمون الشرف والإنصاف في معاركهم، ولا يمكن لي بأي حال من الأحوال أن أتجنى عليك وأظلمك وأدعي عليك ما ليس فيك، فما يهمني هو ضميري الذي يلازمني بعد أن ترحل عني، ولو أنني ظلمتك لظل هذا الضمير معذبا من ظلمي لك.
ترى هل أحمد الله على حالي، أم أعتبر نفسي من الخائبين؟
هناك قوم في خصومتهم يستبيحون كل شيء.
ولتعلم كذلك أن أفجع ما يروعني من الحياة والأحياء، حينما تنشأ خصومة بيني وبين أحد الناس، ثم أراه يهيل علي الأكاذيب ليحقق انتصارا رخيصا علي، وأنظر إلى نفسي أمامه لأقول: ما أخسه وما أحقره؟!
ولقد حدث هذا يوما وما زلت إلى هذه الساعة في ذهول وفجيعة، حينما اشتد الحوار بيني وبين أحد أقاربي، فإذا به يهيل علي التهم المفتراة والأكاذيب الزائفة لكي ينتصر في الحوار، بل كان يرميني زورا بما فيه من تهم، دفعه إلى ذلك ذكاء الشيطان كحركة استباقية قبل أن أرميه أنا بما فيه حقيقة، وأعترف أنني فجعت أكثر حينما دعوته للحلف بالله على ما قال، ظنا مني أن اليمين المقدسة قادرة على أن تكشف ضلاله، فإذا به يحلف وفي قوة أو في فجور وبغي لا نظير له، ومن يومها علمت بشاعة الإنسان حينما يخبو ضميره وينام، فلا يقيم اعتبارا للقيم والدين، ولا يلتفت إلى ضميره في شيء، لأنه ضمير أعلن وفاته منذ زمن.
وفي دراساتي لحياة الأستاذ العقاد، وجدت طرفا من هذا المشهد مما حدث معي ومعه، أو شاركته فيه حينما تعرضت لمثال مما تعرض له، لكنه رحمه الله كان أكثر عرضة له إذ كانت تستهدفه أقلام كثيرة، تسمه بزيوف يعلم أصحابها أنه منها براء، ولكنه الكذب والرخص في الخصومة، والشرف الذي يتجرد منه الإنسان أمام شهوة الانتصار الزائف.
وكان العقاد يتعجب دائما ممن يتهمونه بالعمالة والتمويل والجاسوسية فيقول سائلا نفسه: كيف لا يصدق هؤلاء الناس أن دفاعه وهجومه لا يقف وراءه غرض من الأغراض، وليس مصدره تشجيع هيئة من الهيئات السياسية والأجنبية؟ ألا يمكن للإنسان أن يكون صاحب دعوة من أجل الدعوة ذاتها وحدها؟ هل من الضروري أن يكون هناك إغراء سوى إغراء المثل والمبادئ المجردة؟ وهل هؤلاء الناس فعلا أعجز من أن يتصوروا معاني البطولة والتضحية والاستشهاد؟
ولم يلبث قليلا بعد موته رحمه الله إلا ووجد من اتهموه وهاجموه وقد استيقظت ضمائرهم بعد ثبات طويل، وكأنما أفاقتهم عظمة الموت وصدمة الرحيل، فآبوا إلى رشدهم، وساقوا أنفسهم إلى مقصلة الاعتراف والندم التي أعلنوا فيها أنهم جناة مذنبون، أدعياء مغرضون فيما ادعوه عليه واتهموا به.
فهذا أحدهم يكتب يوم وفاة العقاد مقالا تحت عنوان " محامى العظماء" يقول فيه:
"ولكنني أحب أن أقول هنا كلمة أؤمن بها للحقيقة والتاريخ، فالعقاد لم يكن في فكرة من أفكاره ماجورًا، ومواقفه الفكرية التي لا يوافقه عليها الاشتراكيون، لم تكن لحساب أحد كما قال البعض كثيرا، واعترف صادقا مستريح الضمير - إننى واحد من الذين أخطأوا في حق العقاد واتهموه بأنه كان مأجورا في بعض كتبه و دراساته.. فالعقاد كان كثيرا ما يفرض على الذين يناقشوه - عندما يغضب - أن يستخدموا ضده كل الأسلحة.. حماية لهم من أسلحته التي يستخدمها هو، والتي كانت بلا حدود"
فلأجل معرفتي بأسلحتك، أسارع أنا لأرميك بها حتى أنجو منها!
وانظر إلى ما كتبه ابراهيم الوردانى معتذرا عن مهاجمته للعقاد في أخريات أيامه حينما قال : " وعندما أخذت أنفاسي وعدت استطلع ما كتبت منشورا. أصابني الفزع والروع فما هذا الذي فعلته، كيف تلد اللحظة الجموح تلك، كل هذا الهرم من الأخطاء؟ نعم واعترف بأنها أخطاء بل ذنوب، ففي حمية الاندفاع - ضد العقاد - تعثر قلمي في تعابير فاحشة مترنحة لا يقترفها الا ضرير طائش بعدت عنه الرؤية وضاع منه الوعي في لحظة فقدان صواب"
وأمام هذه الاعتذارات والاعترافات جميل للمرء أن يعترف، ويعتذر، وسيجد لا شك من يحمدون هذا فه، لكنني، على خلاف من يحمدون، فالحسرة في قلبي ممن يفقدون الصدق لا يغفرها شيء، فأنا يمكن أن أعذر في أي شيء إلا الكذب، فالكذب عندي غير مغفور، فهي حالة من صور الإنسانية البغيضة التي لا أطيقها ولا أحترم أصحابها.
لأي شيء ولأي عاقبة ولأي مصلحة ولأي نشوة يدفعك الخصام والعناد أن تفتري بالبهتان على الناس؟
الانتصار في المعركة؟
الانتصار في الكلام؟
الغلب على الخصم؟
يالها من مكاسب حقيرة هزيلة، أمام تلك اللحظة التي خسرت فيها صدقك مع نفسك واحترامك لذاتك.
ألا تعلم أن المؤمن يمكن له أن يكون كل شيء إلا أن يكون كذابا؟
الجم جماح قلمك وكمم فمك، حتى تنظر ماذا تكتب وماذا يخرج منك، ان كان صدقا فمرره، وإن كان عيبا وكذبا فاجلد نفسك عليه واكتمه، فكل شيء يزول وتبقى أصابع الندم تعضها عضًا.
منذ فترة طلع علينا كتاب ينتقد العقاد ويظهر للأمة كل نقيصة في الرجل، ودار صاحبه ينقب عن كل خطأ حتى يظهره ليشين به حياة الرجل، ولم يقف عند هذا فقد كان أغلب ما اتهمه به، شبهات قامت على بتر الجمل من النصوص، حتى يحقق معنى الإدانة، ويمسك له على اللفظ مفصولا عن سياقه، وكانت أغلب ما رمى العقاد به أقاويل تحتمل الصواب والخطأ، أخذ صاحبها يحملها قصد السوء، فكانت له قراءة عجيبة للنصوص لا أعرف كيف فهمها وكيف استوعبها وهي على غير ما قامت عليه أو قيلت لأجله.
وكانت من ضمن الشبه التي رددها وأثارها طعنا في دين العقاد، أنه كان يعقد صالونه وقت صلاة الجمعة، ضاربا بكل الشهادات التي نفت ذلك عرض الحائط، حتى جاءت شهادة أستاذنا الدكتور محمد هيكل كواحد من الأحياء الذين شهدوا صالون العقاد وارتاده بانتظام فقال: شهادتي هي أقوى شهادة، فقد داومت على حضور الصالون مدة ثلاث سنوات وكان يرفع قبل صلاة الجمعة.
ويبقى السؤال: ماذا بقي لصاحب الشبهة وكتابه من الإنصاف؟ هل يدفعه الشرف أن يعلن خطأه عما اتهم به العقاد، أم أنه يغفل الأمر حتى لا يوضع في حرج يمكن له أن يشكك القراء لو اعتذر في كل ما جاء به وكتبه؟!
أعتقد أنه لا يمكن له أبدا أن يعترف بنقيض ما قال أو يعتذر عنه، لأنه يخشى تلك الهالة التي سجلها على العقاد أن تزول وتنهدم.
وليبقى في صورة الناقد الكبير الذي ناطع أعلى قمة علمية.