في صدر شبابي عام 2006 وفي صالون الدكتور (سعيد اسماعيل علي) كنت صحفيا صغيرا أرسلني رئيس التحرير لتغطية ندوة للدكتور الفذ محمد عمارة، ذهبت مبكرا وكان هناك حشد كبير من أساتذة كلية التربية من أصدقاء وتلامذة الدكتور سعيد اسماعيل علي، كلهم ينتظرون وأنا معهم وصول العالم الكبير والمفكر العملاق.
وما أن دخل حتى احتفى به الجميع وصافحوه، أما أنا فلما جاء دوري احنيت رأسي أقبل يده.. وهنا قامت عاصفة من الأساتذة الجامعيين، فصاح أحدهم: ليه كده يابني ليه، لأنه يعتبر أن مثل هذا الفعل، مهانة للنفس وتعبير عن تقديس البشر، ولا يجب أن يقبل إنسان يد إنسان.
او انه تجسيد لما يقال عن كهنوت الدين ورجاله.
فلما هممت بالدفاع عن نفسي وتبرير الفعل، علا صوت أخر ليقول لي: خلاص خلاص، اي انتهينا، فرددت عليه من باب المكايدة بمثل قوله، وانتهى الموقف.
أما خلة تقبيل اليد فهكذا تعلمنا في الأزهر أن نقبل يد العلماء.
كنت أدرس في كتاب الاختيار لتعليل المختار على المذهب الحنفي قول عبد الله بن المبارك: تقبيل يد العالم والسلطان العادل سنة.
ومن قبله علمنا أن الصحابة كانوا يقبلون أطراف رسول الله.
وحينما صرت في المرحلة الجامعية، قبلت يد العالم الجليل محمود عمارة، وقبلت يد الدكتور محمد بكر اسماعيل، وقبلت يد شيخنا فقيه الامة حسن أيوب.. وهكذا لا أرى عالما عظيم الشأن جليل القدر إلا وقبلت يده.. وقبلت يد بعض الاطفال الذين طهرت نفوسهم ولم تتلوث ضمائرهم وأيديهم بظلم.
ومن قبل هؤلاء جميعا قبلت يد والدي رحمه الله.
وقرأت كذلك في سيرة الشيخ صالح الجعفري رحمه الله، أنه حينما كان طالب علم صغير في الأزهر، لمح العلامة الجليل محمود خطاب السبكي، فاقبل عليه يقبل يده، فجذبها السبكي بقوة ونهاه، فقال له صالح: إنها من السنة كما في سنن ابي داوود، وهنا تريث السبكي ثم وضع يده على كتفه، وأخد ينادي العلماء في صحن الازهر بأعلى صوته ليقول لهم: انظروا شاب فيما دون العشرين يحدثني بسنن ابي داود.
فعل ذلك إعجابا به ونبوغه واطلاعه المبكر
وقد قرأت قول الشعبي: صلى زيد بن ثابت على جنازة فقربت إليه بغلته ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال زيد خل عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس : هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء فقبل زيد بن ثابت يده ، وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم.
وكان من اليهود من قبل يد النبي وقدمه كما في الترمذي:فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ، فَقَالَا : نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ.
وقال الفقهاء:
"وتقبيل اليد جائز أو مستحب إن كان المفعول له من أهل العلم والصلاح والشرف، ونحو ذلك من الأمور الدينية، لا إن كان من أصحاب الغنى والشوكة. قال ابن حجر في فتح الباري: قال النووي: تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته، أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب، فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا، فمكروه شديد الكراهة."
لاحظ هنا قول النووي رحمه الله والذي وقفت أمامه كثيرا.
لأن مسألة تقبيل اليد لا يجب أن تكون على المشاع، فكل من مدحنا أو أسدى إلينا معروفا ننحني ونقبل يده، بل يجب أن تقيد بما قاله النووي ولفت إليه، لأنها تعني الامتهان إذا صدرت تجاه من لا يستحقها.
كما أنني احترم كثيرا ذلك الذي ننحني لنقبل يده، فإذا بها يسحبها بقوة من فمنا، اما المتغرس والمتعالي الذي يرخي يديه، لأنها هذا الفعل يداوي عنده نقيصة، فهذا لا احترام له ولا توقير، وكل من قبلنا اياديهم من العلماء كانوا يجذبونها بقوة.
اذكر من الحوادث المدوية في مصر لمسألة تقبيل اليد، حينما قبلت الوزيرة عائشة عبد الهادي يد سوزان مبارك وهي في قمة الرخص والتبذل، وكذلك حينما قبل النايب ياسر حمود يد مرشد الإخوان عاكف، فقامت الدنيا ولم تقعد.
ومن قبل هذا في تاريخنا العلمي المشرف، حينما حبس والي الشام سلطان العلماء العز بن عبد السلام، فذهب إليه رسول من قبل الوالي، يطلب منه ان يقبل يد الأمير كعلامة على الاعتذار، فرد عليه العز بقوله، يا مسكين اذهب لسيدك وقل له: إن العز يأبى أن تُقبل قدمه، فكيف يقبل يدك؟
هل لاحظت هنا في مقالي هذا من الذي يجب علينا أن نقبل يديه..إنه العالم لشرف العلم واهله، اما أهل الدنيا فإنهم مهما أسدوا إلينا من المعروف، فإن شرف العلم يمنعنا أن نقبل يد أحد..أنت عالم وضعك العلم فوق الجميع، فاحذر ان ترخص نفسك وتضع منها بعد ان رفعها العلم.