ذكرني أحد الأصدقاء المحبين و المحببين في تعليقه على مقالي السابق بأن العالم الجليل الدكتور (محمود عمارة) رحمه الله كان من هذا النوع من العلماء الذين لا يتكلمون في قضايا الأمة وأمور السياسة، ومع هذا فأنا متأثر به شديد التقدير له والحفاوة بتراثه وأدبه وعلمه وبلاغته، فلم لا أنتقده كما انتقدت عالما على نفس الحال.؟!
نعم أستاذي الموقر هذا الكلام صحيح، ولكنك نسيت المفارقة التي أقمت عليها مقالي وأنا أتحدث عن حالة عالم اختلف الناس فيه عند موته، فإني أذكرك ياصديقي أن الزج باسم الدكتور عمارة مقارنة بعيدة، لا تستقيم أبدًا في هذا الطرح، فعمارة رحمه الله لم يؤثر عنه مدح أمير، ولم يدبج يومًا خطبة في إطراء وزير، ولم ينظم يومًا قصيدة في الثناء على مسؤول.
كان الرجل يؤدي رسالته كعالم يخدم العلم ويراعي الحلال والحرام، لكنه لم يكن أبدا لاعقا لأحذية الامراء كما فعل بعضهم، ولم يكن من اللاهثين وراء المناصب والمواقع، ولم يكن -مطبلاتيا- لكل مسؤول من وزير أو وكيل، كان رحمه الله مترفعًا شامخًا عزيزًا قنوعًا، يضع دومًا مشهد الآخرة نصب عينيه ويخاف الله ويتقيه، ويؤمن أن الدنيا فانية.
كان رحمه الله عاشقا للعلم والقراءة والأدب، وكانت سعادته الحقيقية بين أسفاره التي تعينه في نشاطه وجهده الدعوي، وكان غرامه الشديد في تأمله للقرآن، كانت هذه حياته وهذا رجاؤه، وأذكر أنه رحمه الله حينما ذهب لتهنئة صديقه وابن قريته الدكتور الأحمدي أبو النور عقب توليه وزارة الأوقاف، قال وهو في طريق الرجوع: لو عرضت علي المناصب لرفضتها لأنها ستشغلني عن العلم الذي أجد فيه وجودي وسعادتي، إنني أرى المنصب تكتيفا قبل أن يكون تكليفا.!
الدكتور محمود عمارة، كانت الأبواب مفتحة أمامه عبر منافذ الحزب الوطني الذي ضغطوا عليه في إحدى الفترات أن يتولاه ليجمل صورته وينال الثقة عند الناس بعد أن تولاه النفعيون والانتهازيون فافسدوا سمعته، ذكر لي رحمه الله: أنه استطاع من وجوده في الحزب أن يخدم كثيرا من الناس ويقضي مصالحهم التي لو لم يكن في هذا الموقع لما استطاع إنجازها.. ولمّا وجد الحال لا يتناسب معه، ويخالف طباعه، ولا يستقيم مع نزاهته الدينية قرر استقالته من هذا الموقع، وترك الدنيا والمناصب لأهلها، وهنا أقول: لقد أراد الله به الخير، وألهمه الرشد، ولو أنه كان -مطبلاتيا - ينظم قصائد الشعر في مدح الكبار، لكان له شأن أكبر وموقع أعظم.. لو كان رحمه الله من اللاهثين الطامعين في المناصب والمواقع القيادية، لدبج الخطب الطوال في تزكية ذوي النفوذ ونفاقهم والتملق إليهم، أملا في نظرة رضا منهم، كما فعل غيره ممن نشمخ بهم إلى السماء.
كانت الأبواب مفتحة بطولها وعرضها أمام الدكتور محمود عمارة، ولكنه عف وآثر الآخرة، وقد ختم الله له بخاتمة صدق فلم يؤثر عنه أبدا أنه داهن او نافق أو صفق لباطل، أو ناصر زورا، أو حالف إفكا.
أذكر أنني ألفت أول كتاب عن الراحل الدكتور محمد رجب البيومي رحمه الله، وسميت الكتاب (فارس القلم في وجه خصوم الإسلام) ونشرته مجانا للقراء وطلبة العلم على الانترنت، ليكون متاحا للجميع، وعلى قدر عظمة الدكتور البيومي في كفاحه ضد أعداء الإسلام، والمنحرفين الحاقدين من العلمانيين والشيوعيين، إلا أنه كان مجاملا، وكان يمدح الأمراء والوزراء، فقد نظم قصيدة في مدح رئيس سابق حينما اجتمع برجال الأزهر في لقاء مضى، وقد سأل طالبًا أثيرا لديه عن رأيه في القصيدة التي مدح فيها القائد، فقال له الطالب: هذه من باب النفاق، فصمت الرجل ولم يتكلم، وكأنه يراجع نفسه رغم قسوة الرد وفجاجة الجواب.
سيدي الكريم كان يمكن للعالم الرزين الذي يوقر دينه ويحترم أزهره، أن يلتقي بالرؤساء ويصافح الزعماء، وليس في هذا منكر أو خطأ يغضبنا او نعيبه عليه، ولكن ليس هناك أي داع أبدا أن يجعل من نفسه ماسح جوخ للكبار متزلفا لهم بالأقوال والأشعار والمدائح والازهار، جاعلا منهم صفوة الأبطال ورموز النضال.. خاصة وأن أحدا من الرؤساء والوزراء لم يطالبه بذلك أو يكلفه به، إلا أن يكون هو من نفسه متطوعا حسب ما يأمره به هواه وتزينه له نفسه من الغرض والمطمع في سراب الدنيا الفانية.
ومن ثم لا يمكن المقارنة أبدا بين موقف من تذكره وتعليه، وموقف الدكتور محمود عمارة الذي كتب فصولا طويلة تحت عنوان (الدعاة وعقدة الحاكم) ذكر فيها رأيه في سلوك العالم مع الحاكم وكيف يجب أن يتعامل معه وكيف يكون وضعه أمامه؟ وقد قرأت له كل هذا ولم أجد فيما كتبه أبدا أن من سمات العالم الحر الشريف النزيه، أن يمدح الحاكم متزلفًا منافقًا طمعا في الجاه والمناصب والوظائف.
بل أنا أعجب أن صديقي وأستاذي ذكر الدكتور عمارة تحديدًا في هذه المسألة، وسبحان الله فقد كان عمارة من أشد الدعاة والعلماء الذين يتهيبون هذه المسألة، ويلوكونها بفكرهم، حيث كانت تشغل باله كثيرا، فلم يتركها حتى ألف كتابا كاملا تحت عنوان (من مواقف العلماء والأمراء) بين فيها عزة العالم وسموه أمام الحكام.
بل اقرأ له كتابه الأعظم (من الذي يغير المنكر.. وكيف؟) وهو يتحدث عن علماء الأمة الأبطال الذين وقفوا في وجه السادة والأمراء، وكأنه يعكس هوى في نفسه وخلقا طبعت عليه جبلته، ولا يمكن أبدا أن يخالفها أو يقدم غيرها.
كان عمارة من تلامذة الشيخ الغزالي المقربين، وكان الشيخ الغزالي بالنسبة له ملهما وإماما، بل كان من ثقة الغزالي فيه وفي علمه أنه يعطيه كتابه بعد أن يؤلفه ليراجعه له، ويقول له: يا محمود راجع لي هذا الكتاب، يقول الدكتور عمارة: كنت أكلمه في الهاتف وأقول له يا مولانا هذه النقطة يمكن أن تضر في كذا أو تسيء إلى كذا، فكان يرد علي بقوله: يا محمود احذف احذف.... ألست معي أن تلميذا محبا للشيخ الغزالي وصلت به هذه الدرجة الكبرى أن يحذف للغزالي في كتبه، أن يكون هذا طبعه وطبيعته فيعف عن التزلف والمدح والاطراء والنفاق؟! لا يمكن أن يكون تلميذا للغزالي من المتملقين.!
سيدي القدير إن المقارنة بين عمارة وعالمك الذي تتعصب له وتدافع عنه، مقارنة ضعيفة بعيدة لا تستقيم ابدا.
بقي شيء نقد صديقي الذي هو أستاذي، حيث ذكر أن مقالي يخالف أوله أخره ورأسه عجزه، وهذا مما ينافي البلاغة، وأنا اقول لك يا سيدي الحبيب: لو أنك قرأت مقالي بهدوء لرأيت أنه من عيون البلاغة، فالكلام دومًا حينما يخالف ما نرجوه ونهواه لا نرى فيه أي بلاغة أو طراوة أو حلاوة، وإنما يكون قولا من الهرف والهراء والخطل المترنح.





































