عيب كبير علي أن أصف معلما لي في يوم من الأيام بأنه أحمق.
بل عيب أكبر أن أدمج مثل هذه الكلمة بالمعلم وأصفه بها، ولكن ما باليد حيلة في وصفه بذلك، لأجل موقفه الذي لا أنساه معي.
وإذا كنت قد ذممته بالحمق، فإني وفاء له قد وصفته بالمعلم، فتلك مدحة كائنة، ولا يمنع أي إنسان أن يجمع بين المدح تارة، والحمق تارة أخرى، وهو في بعض الأيام مشكور، وفي بعضها مذموم.
حتى أنا كثيرا ما أرتكب من صنائع الحمق ما يمكن أن أوصف بها.
كنت في المرحلة الثانوية الأزهرية أراسل مجلة الأزهر، وأنشر بها كثيرا من المقالات، وكان ذلك مسار فخر لي بين زملائي وأقراني، ويوما ما شاهدني معلم اللغة الإنجليزية في معهد منوف الديني، وتناول مني المجلة، وأخذ يقرأ، وكنت سعيدا بهذا حينما توقعت أن يحفزني بكلمة أو يشكر جهدي بلفظة تشجيع، لكن الرجل ضن علي بمثل هذه الكلمة، التي كان يمكن أن أنساها مع الأيام لكثرة سماعي لمثلها، وأبى بحركة ذكية إلا أن يحفر في ذاكرتي أمره وحاله واسمه فلا أنساه أبدا، لقد أخذ يقلل من المنشور، ثم أعقبه بقوله: (تلاقي الحاج عبد السلام الجمال بتاع بلدكم هو من سعى إليك لنشر المقالة)!
لم أجب بشيء وابتلعت هذه الكلمات المفاجئة، واستسغت هذا الخذلان الكبير، الذي لم يعترف لي بشيء، وكان موقفا علق بالذاكرة لا تنساه فيما يعود عليها من أشباح الماضي، وقلت في نفسي: ماذا عساه لو شجعني أو بارك فعلي، ولو بأقل قليل من علامات الرضى؟ هل كان ذلك يكلفه شيء؟ لاشك أن كلمته لو كانت راضية مرضية، فإنها سيكون لها عظيم الأثر في نفسي، لأنه معلمي، وأجده شيئا كبيرا بالنسبة لي، لكن الرجل بحماقته لم يستوعب الموقف، ولم يدرك أثر كلماته في نفس فتى ناشئ في الكتابة، فحاول تحطيمه مبكرًا من حيث لا يدري أو يتعمد.
ومضى القلم ومضيت خلفه غير عابئ بهذا النكران أو ذاك الخذلان، حتى شببت عن الطوق وفرض قلمي نفسه على الجميع، وصار من هم مثله أو أعلى منه، يقرؤون لي ويقرون بحالي مع القلم.
لقد تعلمت درسا آخر في دنيا الحياة، وهو أن حبك للشيء سيبلغ منتهاه، مهما قابلت من وسائل الكيد وعقبات الإحباط.. إن هذا الحب للكتابة، قد يكون شبيها بإدمان المخدرات، فمع كثرة الناصحين حولك بالسوء الذي تجره عليك، واتهامهم لك بأنك منحرف سيء مفرط في مالك وحياتك.. إلا أنك لا تستطيع الانفكاك عنها أبدا، لأنها عشق وغرام وإدمان.
وهذا هو الحب الذي تتكسر عليه صخور النقد ومحاولات التيئيس والإحباط والإعاقة.
اطمئن ما دمت تحب
فلن يستطيع أحد أن يثنيك عن غايتك وغرامك