من يتابع العراك بين الصوفية والسلفية يدرك أنه عراك أبعد ما يكون عن التصوف الحقيقي بمفهومه الإسلامي الذي ينشد القرب والصفاء والزهد وإخلاص النفس للخالق الواهب.
ذلك أن المعارك بين الصوفية والسلفية في أغلب حالاتها حروب عقدية، لا حروب إحسان وإنابة وسلوك.
ومن ثم نرى بعض الصوفية حينما ينظرون إلى هذه الحرب، يغيب عنهم فحواها العقدي، وينظرون إلى السلفية المحاربين والمنكرين لهم، أنهم يرفضون السلوك الصوفي المبني على الاخلاص والزهد والإنابة إلى الله تعالى، مع أن أساس المعركة ليست في المعنى الصوفي، وإنما فيما ألبسه بعض الأتباع لهذا التصوف من إيماءات عقدية تختلف مع صحيح الدين.
الصوفية هم أكثر الناس استخداما لعملية التأويل، حتى يلينوا المفاهيم فتقبل بعض المنكرات والبدع الظاهرة في أقوال بعض رموزهم وأئمتهم.
وأنت لا يمكن أبدا أن تجد فارقا أو خصومة بين التسلف والتصوف المتسنن، لا يمكن أبدا أن تجد نقيضا بينهما، فأئمة السلفية أنفسهم يعدون من أبرع الصوفية، فيما أثر عنهم من مواقف وأشعار وكلمات تدل على بلوغهم في عالم التصوف وعلمه مبلغا عظيما، فانظر مثلا للإمام ابن تيمية وهو يقول:
أنا الفقيـر إلـى رب السموات * أنا المسيكين فى مجموع حالاتـى
أنا الظلوم لنفسي وهـي ظالمتـى* فمن مجيري من المستمكن العات
وتلك حال عباد الله أجمعهم * فعنده وحده ألقيت حاجاتي.
وقوله الشهير: "إن قتلوني ففي قتلي شهادة، وإن حبسوني ففي سجني خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة"
ويروي عنه تلميذه ابن القيم في كثير من الحالات عددًا من المشاهد والمعاني التي بلغ فيها القدح المعلى من سمات الصوفي وتفانيه.
ومن ثم إذن ندرك أن التصوف لا يخالف التسلف أبدا إذا تجرد من بعض المفاهيم والسبل الصوفية التي تنكرها السنة الصحيحة.
بل أن إذا نظرت في أهم مراجع السلفية وهي الفتاوى الكبرى للإمام ابن تيمية لوجدت الرجل يشيد ويمتدح كثيرا من أئمة التصوف ويعلي قدرهم ومقامهم، لأنه ثبت عنده تسننهم واتباعهم وبعدهم عن البدع والخرافات التي لا تستقيم مع السنة القويمة.
وعلى هذا ندرك أن الالتزام الديني سياج يجمع بين الطرفين، أما التعصبات والخلافات فلا يقوم أكثرها إلا على مفاهيم عقدية، يعتبرها بعض الصوفية أساس المنهج الصوفي.
وإذا كان السلفيون ينسبون أنفسهم للسلف الصالح ويعتقدون بهذا أنهم من المعين الأول، فإن الصوفية كذلك يرون أنفسهم على نهج أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقره ونوه به، لكن للأسف مما يزيد الشقاق بين الطرفين حالة اللاوعي والافتقار إلى الفقه والحكمة والرشد، وظهور تيارات عدائية قمعية تحاول إزكاء نيران العداوة وخلق فتن محدقة وحالة ملتهبة من الخصومة المستمرة، توحي للدنيا كلها أن لا يمكن أن يكون بين السبيلين ثمة التقاء.
وكذلك نجد أغلب غلمان الصوفية فإنهم لا يعادون السلفيين فقط لاختلاف منهجهم مع ما يرونه من العقائد والتصورات والسلوكيات التي اشتهر بها التصوف ويتهمه فيها غيره بأنها بدع وضلالات، فإنك تجد أن سلوكهم العدائي يتمدد كذلك حتى مع أبناء طريقهم ممن يدعون إلى التصوف الرباني السليم الذي يرفض البدعة ويدعو إلى السبيل المستقيم، إنهم لا يعدونهم متصوفون، أو أنهم لا يفهمون التصوف العميق القائم على الخرافة، فكلما كنت منحرفا دينيا عن الفهم السليم ولك فيه تأويل، كلما كنت صوفيا أصيلا، وكلما كنت راضيا بالبدع والأضاليل ولك فيها تأويل، كلما كنت الصوفي الفاقه الفاهم الصادق.
اذكر قديما كيف كانت موجة العداء الرهيبة من التيار الصوفي ضد الإمام محمد زكي إبراهيم الذي هو صوفي في المقام الأول ومع هذا حاربوه وأنكروا عليه وخالفوه بل رفعوا عليه قضايا في المحاكم لتنحية وجوده من دنيا التصوف وهيئاته، وما كان الرجل ينشد إلا الرشد لأهل الطريق وتنقيته من شوائبه، وتطهيره من الأدعياء.
وتلك إذن مصيبة كبرى، مع أن الطرفين أحيانا يلتقيان في بعض المصالح والرؤى والتوجهات، كما نرى مثلا في طاعتهم للسلطان.
وعندي أن كلا المنهجين خاليا من التطرف، ولكن التطرف الحقيقي يتولد على عصابة من أغيلمة الطرفين والمتعصبين والحمقى الذي يريدون وحدهم أن يجعلوا الإسلام خاصا بهم، وأنهم وحدهم من يمثلونه ويعبرون عنه أمثل تعبير.. وقد رأينا من شطط وغلو بعض دعاة الصوفية اليوم من خرج في أحد المقاطع ودعا إلى نبذ تفسير ابن كثير لا لشيء إلا لأن أتباع السلفية يقرؤونه، وهذا سفه وغلو مقيت، فكيف بتفسير يعد من أشهر وأعظم التفاسير القرآنية أن نجد من يدعو إلى نبذه وهجرانه بهذه الطريقة السفيهة، اللهم إلا جهلا وحمقا وغلوا وإزكاء لروح العداوة والبغضاء بين المسلمين.!
حتى وصل نكرانهم وجحودهم أن ينفي كل منهما ما للأخر من جهود علمائه وفقهائه، والتحقير من مكانتهم والتقليل منهم واتهامهم بالجهل والخطأ، وربما التفسيق والتكفير.
آفتنا إذن هي الغلو والتعصب والحل عندي يكمن في إيجاد تيار يجمع بين السبيلين.. فإذا توفر لدينا تيار يقوم على السلفية الربانية التي تجمع بين عقيدة السلف وروحانية التصوف السليم، حيث تعتبر السلفية "الربانية" التصوف الروحاني شرطًا للسلفية، والتصوف "الرباني" يعتبر السلفية شرطًا له لضبطه بالنصوص الشرعية الصحيحة. يمكن القول إن هذا الجمع ممكن لمن يجمع بين منهج سلفي يركز على العقيدة والحديث، وبين تصوف سليم يركز على تزكية النفس والروحانية.. ولله در أئمة التصوف الذين أقروا تسلف الصوفية في قولهم: ""من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق"





































