كتبت كثيرا في الزمن القديم عن مي، وكنت أسائل نفسي دائما: لماذا أحبها الجميع، فلا أعلم أديبا من ذلك الجيل إلا وقد غرق فيها حبا وهياما.
كنت كثيرا ما أجيب على نفسي، وقد تخيلتني بحذق وفطنة قد اهتديت للجواب، فالمرأة المتعلمة المثقفة في هذا الزمان، كانت نادرة، ومن ثم بهرت الأدباء القدامى، فهي نموذج للمرأة المتفردة في عقلها وثقافتها وأدبها.
ولهذه الندرة توقعت أنها السبب الغالب في هذا الحب والهيام.
ولكني أعترف اليوم ومع زيادة الوعي والتوسع القرائي، أنني مخطئ، فمي كانت حالة فريدة في كل شئ، وما كلامي القديم أمام ما علمته من سماته إلا ويعد جهالة سحيقة.
لقد كان في هؤلاء الأدباء الذين أسرت مي مهج أرواحهم، من تعلم في أوروبا، وخالط المثقفات الغربيات، أي أن الثقافة لو أنها هي ما يعوزه، فلن تبهره مي في شيء، لأنها لم تقدم جديدا لديه، فما هي فيه عرفه وألفه من قبل.
لكن حقيقة مي أنها كانت جمعا حاشدا من سمات الجمال والدلال والإبهار، وضعها خالقها في شخص امرأة، فكانت على أحسن وأبهى وأجمل ما تكون، وهي خليقة أن لا يفتتن بها الأديب فقط، وإنما أي شخص يلقاها أو يحادثها يفتتن بها.
لكن مهاراتها الأدبية التي تميزت بها كانت تبهر من يقدرون هذه الملكات فيها أكثر.
نعم عرفت ذلك من وصف الدكتور منصور فهمي لها، ولعله أكثر من لفتني على حقيقة مي، وجعلني اليوم أجيب بشكل مختلف، على ذلك السؤال القديم الذي كانت إجابته بلهاء.
يقول الدكتور فهمي عن مي:
"لا أعدو الحق إذا قلت إنها كانت خطيبة ومحاضرة من أرقى طراز ، ولعل أسبابا اصطلحت على تفوقها في ذلك الميدان ، فقد كان لها في عذوبة صوتها ، وحُسْن أدائها ، وحلاوة إلقائها ، ووسامتها وحسن سماتها معين على ذلك وكانت تميزها حين تقف للخطابة في حفل ، أو للمحاضرة في جمع ، ثقة في نفسها ، واعتداد بشخصيتها ، فما عرفت أنها تهيبت منبرا ، أو خشيت موقفا ، أو غشيتها سحابة من جبن ، أو جلّلتها غمامة من خوف ، بل كانت دائما الواثقة بنفسها"
هذه إذن هي مي، التي جمعت وحوت كل هذه المحاسن الجاذبة، التي أخذت عقول الرجال، فإذا لم تعجبك منها خصلة بهرتك خصال، وإذا وجدت فيها ما تشاركه معها امرأة أخرى فلعمري من أين للأخرى بقية ما تميزت به مي.
لقد كانت مي كما ذكر على ما رصده فهمي بارعة في اختيار الموضوع الموافق لوعي المستمعين لها، ثقافتها وواسعة ف الموضوع الذي تتحدث فيه، لقد كانت مي في خطابها تعرف كيف تتكلم وكيف تنتهي من كلامها ، فلا يمل سامعها، بل يتطلب في سره المزيد ، أما صوتها الرخيم المنغوم، في لهجتها المصرية العذبة ، فكان ذا سحر يجتذب الأسماع والقلوب ، وكم من خطيب أو محاضر ، أوتي خصائص الفكر والكلام ، ولكنه إذا تصدى للخطابة أو المحاضرة تسلل الخدر إلى الأذهان ، ودب الضجر في النفوس.
ولعل هذا السحر في الصوت والإلقاء هو ما ذهل خليل مطران فعبر عنه في شعرها لها، ولعل الشاعر الكبير خليل مطران ومن قبله العملاق العقاد، من لمحها هذا الحضور الطاغي والموهبة الخطابية المتفتقة، فقال مطران يصف جمال الصوت ورقته:
أين ذاك الصوت الذي يملك الأسما ** ع في كل موقف تقفينا
فجع الشرق في خطيبته الفصح** ى وما كان خطبها ليهونا
أبلغ الناطقات بالضاد عبت ** بعد أن أدت البلاغ المبينا
أطربته وهذبته وحثت** ه على الصالحات دنيا ودينا
بل قال العقاد يصف نفس هذا الوقوف:
أين في المحفل "مي" يا صحابْ ؟** عودتنا ها هنا فصل الخطاب
عرشها المنبر مرفوع الجناب** مستجيب حين يُدعى مستجاب
وأنت أيتها الأديبة التي يتطلع لها في أفق السماء الأدبية وحي مي وصورة مي، شيء جميل أن تكون مي ملهمة لك، وقدوة لمسارك، لكنك مهما كنت عليه من المواهب، فلن تكوني كمي، ولن تصلي إلى رتبة دي.
فقد كانت مي وما كتب عنها وما جاء في وصفها، جعلنا نرثي هذا الزمن القديم لأننا لم نكن فيه حتى نشاهد مي، وفي أحيان أخرى نحمد الله أننا لم نكن فيه، لأننا لا طاقة لنا أن نكتوي بجمال مي وعشق مي.
ولعل الصورة التي تنقل لنا ملامح مي قد تسوق بعض السطحيين لامتهان ما حكي عنها وما قيل في هيام الأدباء بها، ولكنك واهم فالصورة لا تنقل أبدا سحر الروح، الذي إن وجد في امرأة فكبر أربعا على عشاقها ومفتونيها.