كان مولانا الدكتور محمود عمارة عليه رحمة الله يقف يومًا في مكتبته يستل بعض الأبحاث الأكاديمية التي عُهد إليه بقراءتها ثم مناقشتها، وبينما هو يحرك الكتب يمينا ويسارا ليستخلص من بينها الكتاب المراد والرسالة المعنية، إذا بالمكتبة ترتج، لتسقط على رأسه حزمة من الورق القديم، ثم بعد ارتطامها برأسه، تتناثر في أرض الحجرة هنا وهناك.
كانت الأوراق عتيقة تفوح منها رائحة القدم، وهي الرائحة التي أغرته أن يلاحقها ليتبين ماهيتها، ما هي وماذا تكون؟
اجتر الأوراق ولملم المتناثر منها، ونظر فيها، فإذا هي مجموعة من أفكار علم الاجتماع كان قد سجلها قديما في مرحلة الطلب والدراسة، خلف أستاذه المرحوم الدكتور محمد أحمد الغمراوي، في ستينات القرن الماضي.
تصفح عمارة مضمون الورق العتيق، وتذكر أستاذه وترحم عليه، وقد كان يصفه بأنه كان من نعم الله عليه، وكان يصفه بالورع والدقة والنظام والغيرة الشديدة على الإسلام.
نظر عمارة للأوراق ورأى أن من الخسران الكبير، أن تحرم الأجيال مما تحمله من أفكار لم تخرج إلى النور، فعكف على الورق، بين الاستشهاد والشرح والتوضيح والتعليل، وأخرج كتابه الفذ تحت عنوان (دراسات إسلامية في الاجتماع)
لقد آن أوان هذه الأوراق أن تخرج من خبائها الذي طال عقودًا طويلة، وكأنها قد ملت عقالها وعزمت أن تقفز إلى النور والحرية.
وشبيه بهذه الغرابة، ما حدث للعلامة الدكتور محمد رجب البيومي ففي يوم من الأيام رأى بضعة أوراق مجتمعة في كتاب يتحدث عن الأخلاق الإنسانية، في طبعة مدرسية مشكولة الكلمات، نزع عنها غلافها وضاعت مقدمتها مع بعض صفحات الفصل الأول، فأخذ يقرأ ما بين يديه فراقه أن يجد بيانا بهذا العلو، وبلاغة ترتفع لأرقى عهود الفصاحة، وكاد يحسب مؤلف هذا الكتاب المجهول الهوية، علمًا من أعلام العصر العباسي، لولا أنه أعرض عن ذلك حينما رأى بعض الاستشهادات بأعلام أوروبية، فيما بعد عصر النهضة، وعز عليه أن يترك هذه الأوراق عارية تشكو إلى الله سفور الجسد كما قال، فاصطفى لها غلافا صنعه بيديه، وكتب عليه بخط النسخ: (فصول أخلاقية لأديب عظيم) وكان يعاود قراءة هذه الأوراق بين الحين والحين يائسا حائرا من الاهتداء إلى مؤلفها، حتى وقع في يديه ذات يوم كتابا باسم (علاج النفس) للأديب الشهير محمد المويلحي، فتملكته الدهشة حينما علم أن هذا الكتاب هو ضالته، وحمد الله أن صدقت فراسته حينما كتب على غلافها ( لأديب عظيم) وقد كان المويلحي كذلك.
ولعل هذا الموقف هو ما عشته فترة من الزمن وتشابهت فيه مع سيدي البيومي، حينما وجدت كتابًا قديمًا في مكتبة والدي رحمه الله، ذو ورق قديم أصفر، منزوع الغلاف والمقدمة والفهرس، وبه فصول عظيمة من عيون الأدب العربي، ولكني اهتديت إلى اسمه، الذي وجدته مكتوبا في هامش بعض الملازم المتبقية وكان تحت عنوان (المنتخب من أدب العرب) سألت كثيرا عن كتاب بهذا العنوان فلم يعرفه أحد، فحافظت عليه، وظل عندي أراجعه كلما سنحت لي الظروف، دون أن أعرف من مؤلفه، لكنني كنت أحلم أن أقف على أصله وفصله، وكان ذلك قبل أن يظهر الإنترنت وآلياته البحثية، التي يمكن أن تحصل من خلالها على الجن نفسه لو أردت.
ومع مرور الأيام شاءت الأقدار أن أتعرف على هذا الكتاب حينما أصدرته مكتبة الأسرة لسوزان مبارك، في مجلدين كبيرين زهيدي الثمن، ففرحت به فرحة غامرة، وسارعت باقتنائه، فوجدته كتابا فخما كعهدي به، وزاد من قيمته عندي حينما رأيت أسماء مؤلفيه وهم من كبار الأدباء وعمالقة البيان، (طه حسين، علي الجارم، عبد العزيز البشري، أحمد أمين أحمد الإسكندري، والدكتور أحمد ضيف)
عيب الكتاب الوحيد حينما ملكته أن ورقه أبيض حديث، وأنا من هواة الورق الأصفر القديم، لكن لا ضير أمام معرفتي لأصل الكتاب ومصدره الثمين وأصالته المبهرة.