لقد كان تعليقا شديدا هذا الذي أدلى به صاحبي في صراحة ووضوح ومكاشفة صارخة، ليهدم كل ما بنيته من أدلة على ثورية الأستاذ العقاد وتمرده وانتفاضه الدائم في وجه المستبد.
لقد قال صديقي يومها بعدما قرأ ما كتبت وسردت في مقارنة مثيرة بين موقفي العقاد والرافعي من الملك فؤاد:
"وإنى لأعجب كيف انقلب هذا الفارس حملا وديعا في عهد عبدالناصر فلم يوجه له كلمة نقد في الوقت الذى صرخ فيه هاشم الرفاعى فى وجهه حتى قتلوه:
جلاد مصر و يا كبير بغاتها = مهلا فأيام الخلاص دوانى
لا يغرينكموا بضرب رقابنا = هذا السكوت فإنه لأوان."
والحق يا صديقي أن العقاد لم يسكت أو يتحول كما ذكرت إلى ذلك الحمل الوديع الذي استكان بعد جلبة، وهدأ بعد فورة، وإنما كان للرجل انطباعاته وآرائه ونقداته التي نقلت عنه وسجلها تلامذنه في حق هذه الحقبة المظلمة وزعيمها المهزوم.
يروي الراحل أنيس منصور في كتابه (في صالون العقاد كانت لنا أيام) والذي يعد من أكبر الوثائق عن تاريخ الأستاذ العقاد حيث ذكر رده على مقولة عبد الناصر للمصريبن بعد حادث الاعتداء عليه في المنشية قائلا: “عندما قامت ثورة يوليو كان العقاد يضيق بكثير مما يقوله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقال إن عبد الناصر- يوم الاعتداء عليه- كان يصرخ قائلا: أنا الذى علمتكم الكرامة أنا الذى علمتكم العزة.
وقال: إن العقاد- لما سمع هذه العبارة- “كان يقول: إن شعبا يسمع مثل هذه العبارة ولا يثور عليه ويشنقه فى مكانه، لشعب يستحق أن يحكمه ويدوسه بالنعال، هذا الرجل عندما قام بثورته هذه، وجد البيوت والشوارع وملايين الناس والأهرامات والثورات والجامعات ومئات الألوف من الكتب، لقد سبقه إلى الوجود كل هؤلاء، وسبقته إلى القاموس كلمات أخرى غير العزة والكرامة، الغرور والغطرسة، مثل هذه الغطرسة"
:ويقول أنيس مستكملا
لم أستطع بالطبع أن أدافع عن عبد الناصر - الذى أحبه- أمام ثورة العقاد، ليس فقط لأن حضورى الصالون كان خياليا، ولكن أيضا لأن العقاد كان كشمس الظهيرة فى أغسطس حارًا، وحارقًا لا يستطيع أحد أن يفتح عينيه فى مواجهته، فما بالك بفمه، كما أنه كان محقًا فيما قاله.
والعقاد كان يؤمن بقاعدة حاكمة لا تفريط فيها: من يأخذ منك حريتك فهو لص.. سواء يضع على رأسه تاجا من ذهب أو من الشوك أو عمامة بيضاء أو سوداء.. أو قفصا من السميط والبيض.
ويقول غيره: إنه فى زمن عبدالناصر تقلصت فى مصر الكثير من الحريات و التجمعات السياسية والمثقفين و كان العقاد يعقد صالونا ادبيا اسبوعىا يسب فيه عبدالناصر على الملأ و ينقده أعنف النقد و يقول: كيف لرجل ان يأخذ اموال الناس بغير حق؟ و كان يجزم ان عبدالناصر معقد نفسيا و انه نرجسي و كان هذا الكلام يصل لعبدالناصر لكنه لم يستطع ان يفعل شيئا، ففى عهده كان قد شاخ العقاد و أصبحت شهرته عالمية فخاف أن يحبسه حتى لا يقول العامة و العالم كله: إنه يحبس العلماء.
و ورد أنه فى أوائل الستينات رشح العقاد لجائزة الدولة التقديرية هو و طه حسين و ان الرئيس هو من سيسلمهما الجائزة
فخاف كل تلامذة العقاد من ذلك لأنهم يعلموا ان تلك اول مرة سيتقابل العقاد بعبدالناصر و ان عبدالناصر يحب ان يشجعه الناس و يقولون له عبارت الزعامة والشجاعة و ان العقاد لن يفعل ذلك ابدا، فرجوا العقاد ان يكتفى بالشكر للزعيم و ان يسكت و لكن ما ان صعد العقاد على المنصة لاستلام فقال: انا اشكر الشعب المصري الذى كرمنى، فانا عشت عمرى من اجل مصر و الان مصر ترد الجميل.. و نزل و لم يشكر الرئيس و عبارته هذه فيها شكر للشعب المصري فقط، و ليس للرئيس، و فيها اشارة انه يستحق التكريم.!
وعلى ذكر استشهاد صديقي بشعر الشاعر الثائر هاشم الرفاعي أريد أن أسأله: ماهي العاقبة التي حلت بالشاب الصغير نظير شعره الذي ألهب به ظهر هذا الطاغية؟
لقد اغتيل هاشم ومات وهو في عمر الزهور.
وكذلك كانت عاقبته وعقاب كل من يتطاول بنقد للزعيم المفدى ولو مجرد نقد بسيط، ليُذهب به وراء الشمس ويختفي ويموت وينتهي وجوده، فهل كنت تريد للعقاد أن يناضل أو يتكلم في هذا المناخ الأسود؟!
ورغم ذلك ياعزيزي تكلم العقاد وأعلن وصرح ولم يسكت.
وأما إن حاول أحدهم أن يشكك في أن ناصر كان يخشى من اللوم العالمي لو أنه عاقب العقاد، فهذا ظن وتأويل صحيح وله شاهد يؤيده.
فقد حدث حينما ترجمت مسرحية لتوفيق الحكيم إلى اللغة الألمانية وتم تمثيلها على المسارح الألمانية، ودعي إلى السفر في سالزبورج لتكريمه والاحتفاء به، وقتها كتب السفير المصري في ألمانيا تقريره الذي أرسله إلى وزارة الخارجية المصرية، مرفقا به ما قالته الصحف الألمانية من أخبار ومقالات عن الحكيم.. وحين عاد الحكيم إلى مصر وجد وزير الثقافة قد تقدم بطلب لفصل الحكيم من منصبه طبقا لقرار التطهير لانه حسب كلامه موظف غير منتج، وحينما علم عبد الناصر بالأمر صاح في وجه الوزير قائلا: أتريد أن نطرد كاتبا عائدا إلينا بتحية من بلد أوروبي؟ أتريد أن يقولوا عنا أننا جهلاء؟ وانتهى الأمر بإخراج هذا الوزير من الوزارة.
والشاهد من هذا الموقف واضح بارز، وهي أن ناصر كان يحسب للخارج ولكلام الخارج ألف حساب..
فماذا كان هذا الخارج ياترى يقول لو مس العقاد الشامخ سوء أو عقاب، ناهيك عن أنه شيخ هرم لا يقوى على تحمل أي عقاب.
كما يبدو والله أعلم أنه كان لا يضيق بالعقاد رغم علمه بالخلاف معه، فحينما قيل له: إن العقاد يرفض الشيوعية ويهاجم الاشتراكية، كان رده عجيبا، فلم يصدر أمره بسجن العقاد واعتقاله كما هي عادته مع كل من يخالفه، وإنما رد بقوله: إذا كان العقاد يخالف الاشتراكية فعندنا طه حسين يؤيد الاشتراكية فليكتب عنها طه حسين، أي أنه وجد المخرج من هذا الخلاف كبديل عن الشقاق والعقاب.
جملة القول يا أخي: إن الرجل لم يكن كما وصفته بالحمل الوديع، وإنما بالثائر دائما على العهد لا يحيد.