هل تتخيل أن يخدع كبار الكبار بألاعيب المستشرقين، وتغريهم مكورهم، بعبثياتهم بتراثنا.
هذا ما حدث، فقد قرأت أن كبار العارفين، وعظماء الثقافة، قد أشادوا بالمستشرقين، وزعموا أن لهم الريادة والرياسة والإبداع في آثار تراثنا، بما لا نقوى نحن على مثله أو نصفه أو ربعه.
إن المرء ليقف مندهشًا أم هذه العقول الجبارة، التي لم تتبين ألاعيب المستشرقين، وطريقتهم البينة التي تدس السم في الدسم.
انظر معي لهذه الأسماء العلمية الشاهقة، ذات العقول المعجزة القادرة.. زكي مبارك، محمد كرد علي، وذلك الفيلسوف الكبير عبد الرحمن بدوي.
كانوا جميعا ممن بهرهم أداء المستشرقين، وسحرتهم مصنفاتهم ومستخرجاتهم وجهودهم في عينات تراثنا المجيد.
فامتدح الأول عمل المستشرقين ودافع عنهم وادعى أنهم طلائع لأممهم في الشرق، وأنهم رجال أقوياء، تنفع صحبتهم، وتعدي قوتهم.
وقال الثاني: " ما برح العارفون منا يقدرون عمل المستشرقين حق قدره، ويعجبون به ويمجدونه ونقل مصدقا لكلام أستاذ له، فيقول: لم نحرص على شيء آخر حرصنا على علوم الدين ومقوماته، وأغفلنا ما عداها من العلوم إلا قليلا، ولولا عناية المستشرقين بآثارنا، ما انتهت إلينا تلك الدرر الثمينة، التي أخذناها، ثم ذكر عدة كتب، وقال: لو جئنا نعدد حسنات ودواوين الشعر وكتب الأدب والعلم، التي أحيوها، لطال بنا المطال"
أما الثالث فقد اعترف بمآرب المستشرقين ثم باركها، وهو يتحدث عن مجلة المشرقيات التي يصدرها المعهد البابوي للكتاب المقدس، فيقول: " ولو أن الذي يشرف عليها معهد مسيحي، إلا أن أبحاثها علمية خالصة يراد بها وجه العلم الصحيح، والحقيقة وحدها"
لم يستقم هذا الكلام في عقل علامة الأزهر الكبير ومفكره العبقري العلامة محمد رجب البيومي الذي رد هذا الإعجاب وتنكر له، وأفاق هؤلاء المخضرمين على أخطائهم فقال عن زكي مبارك: "إن مركب النقص في نفوسنا المستعمرة، يصور لنا هؤلاء الأعاجم تصويرا عاليا، فهم مصيبون إذا أخطأوا، وهم ذواقون إذا حكموا، وهم بعد أبناء أمم قوية، كما يقول زكي مبارك، فليفعلوا ما يشاؤون."
وقال:
" فأي هيام جنوني دفع بالكاتب إلى تأييد الاستعمار، وليت شعري أهو هيام فقط؟ أم خبل مأفون"
وفي رده على كلام محمد كرد علي قال: "لا ندري بماذا يجيب علينا إذا قلنا له: إن أكثر ما نشره المستشرقون من الكتب الأدبية ، يتجه إلى ناحية الترف والملذات والشهوة، مما لا يخفى بواعثه في انحلال المجتمع العربي." وهو يقصد أنهم يريدون أن يستقر في النفوس أن حياة العرب ومجتمع الإسلام كان مجتمعا يغط في الشهوات ويعيش للملذات، فلم تكن في هذه الأمة قيمة أو فضيلة أوو طموح.
أما بدوي فقال عنه بعد أن وصفه بأنه من عشاق المستعمرين، وتهكم عليه تهكما واضحا فقال: " الدكتور الجامعي يؤكد أن المعهد البابوي للكتاب المقدس ينشر أبحاثه الإسلامية بحثا منصفا يراد به وجه الحق وحده، فأين الكتاب المقدس إذن يا دكتور؟ وهل تحول المعهد البابوي إلى أزهر شريف؟"
وأسف البيومي برابع نحا نحوهم وهو الكاتب أحمد أمين حينما كتب في فجر الإسلام معجبا برأي المستشرقين من أن أبو ذر رضي الله عنه كان متأثرًا بالمذاهب الفارسية، التي تدعو إلى الاشتراكية في الموال، فاستنكر هذا الكلام واحتج قائلا : "فأي كتاب درس أبو ذر ، وعلى يد أي فارسي تعلم؟ فعل ذلك كله عند أحمد أمين ومن شايعهم من أساتذته المستشرقين"
ويبين رحمه الله أن" المستشرق لا يكتب عن سيرة الرسول إلا ليتحدث عن أسطورة الغرانيق، وزواج محمد بزينب ، وتعدد زوجات نبي الإسلام، وما شابه ذلك بغية الوضع والإرجاف، وهم لا يؤمنون بنبوة محمد، فمحال أن ينصفوا نبيا يكذبونه ويحاربون مبادئه، وقد يصطنع أحدهم الإنصاف الكاذب، فيدعي أنه لا يكذب محمد محمدا، ولكنه يؤكد أنه كان مخدوعا واهما، ويعتقد أنه نبي وهو غير نبي، وهذا بعض ما جاء منهم في الشأن الديني"
ثم كانت رؤيته المنصفة الباحثة اليقظة حينما نوه بأن المستشرقين قاموا بنشاط ملحوظ في نشر الآثار الأدبية والتي لم تكن لخدمة البحث المجرد وإنا كان ذلك بهدف التجارة الرابحة التي تدر عليهم الثراء، أو تخدير يغيم العيون عن فخ قاتل مخدوعة بالطبع الصقيل والفهارس الكثيرة والتزيد باختلاف النصوص ولم يعرض البيومي عن قراءة كل ما كتب المستشرقون، وإنما دعا إلى التبصر واليقظة والنقد والتمحيص، حتى يكون القارئ حذرا واعيا بالأغراض الدفينة التي تسلك سلك الخديعة لتحقق مآربها.