كم نادينا كثيرا بأن هؤلاء القوم أبعد ما يكونون عن الفكر والعلم والمنطق والصواب والوطنية، وأنهم عباد لشهواتهم من حب الظهور والاستعلاء والشهرة فقط، بل إن أكثرهم تثبت عمالته الفكرية لجهات أجنبية يتلقى منها الدعم المادي، لمعاداة دين وطنه وطمس هوية أمته.
ومن محاسن الصدف أن يفضح بعضهم بعضا، ويكشف بعضهم عورة بعض، ويفصح عن خبايا قرينه من الغرض الدنيء والتسفل الرخيص، دون أن يلتفت إلى أنه لا يكشف للناس حقيقة شخص وإنما يفصح عن طبيعة تيار لا أخلاق لمريديه.
وانا هنا أنقل لك نص مكالمة بين المفكر اليساري حسين أحمد امين، والكاتب العلماني فرج فوده، كشف عنها الأول وسجلها في أحد مقالاته وكتاب من كتبه.
اقرأ وتمعن لترى الشخصيات الانتهازية الوضيعة التي لا يهمها فكر ولا رأي، بقدر ما يهما السمعة والصيت، وحب الشهرة الجارف، بل اقرأ لترى كمية الحقد والحسد والغل، والميول الملتوية التي تريد أن تسلك سبلا شيطانية من أجل الترويج لكتاباتها التي وضعوا فيها كفريات وضلالات لا إيمانا بها، ولكن لأنها تسهم في شهرتهم وإذاعة أنبائهم، لتقبل الدنيا عليهم حتى ولو من سبيل الحرام.
نص المكالمة التي نشرها حسين أمين في مقالة له في ١١ مارس عام ١٩٩٢ وضمها بعد ذلك في كتابه شخصيات عرفتها:
"طبعاً سمعت الخبر يا أستاذ حسين.
-أي خبر ؟
- خبر مصادرة خمسة كتب للمستشار سعيد العشماوي في معرض القاهرة الدولي للكتاب.
- نعم. وقد آلمني الأمر وأحزنني أشد الحزن.
- ألمك وأحزنك ؟! اسمح لي أن أسألك على من أحزنك الخبر؟
-على المستشار العشماوي بطبيعة الحال.
- على المستشار العشماوي ؟! أستاذي الكبير، ارفع سماعة تيليفونك واتصل بدار سيناء للنشر لتسألها عن حجم مبيعاتها من الكتب الخمسة منذ أذيع خبر مصادرتها.. في بحر ثلاثة أيام يا صديقي بيعت سبعة آلاف نسخة من كتاب معالم الإسلام، وخمسة آلاف نسخة من كتاب أصول الشريعة، وستة عشر ألف نسخة من كتاب الخلافة الإسلامية وهلم جرا.. كم نسخة بيعت من كتابك "الإمام" حتى الآن؟
- ثلاثة آلاف.
- اتفرج يا سيدي.. وأنا لم أبع من كتابي الحقيقة الغائبة غير ألفي نسخة ... كم يدفع ناشرك مقابل إعلان صغير عن كتاب لك في "الأهرام" أو "الأخبار"؟
- ستمائة جنيه على أقل تقدير.
- والمستشار سعيد العشماوي تتهافت الصحف والمجلات اليوم على نشر الأحاديث معه والمقالات له عن قرار مصادرة كتبه على ثلاث صفحات أو أربع، ومع صورة كبيرة، دون أن يدفع شيئاً.. بل ربما دفعت هذه الصحف والمجلات له المكافآت عن هذه الأحاديث والمقالات.. لقد كان جمهور السينما عندنا وقت صباي يهتف بالبطل حين يراه يقبل البطلة: أيوه يا عم تبوس وتاخد فلوس كذلك العشماوي تنشر الإعلانات الضخمة عن كتبه ويتقاضى عنها مكافأة .. ارفع سماعة تيليفونك واتصل به هو نفسه لتدرك مدى تهلله وسعادته بهذه الهبة التي نزلت عليه من السماء في صورة قرار بمصادرة كتبه.. وقد كان الرجل في جميع أحاديثه مع الصحف من الدهاء والمكر بحيث تظاهر بالغضب والاستياء الشديدين من هذا القرار، وكأنما أضير من جزائه ضرراً بالغاً.. بل وهم برفع قضية على مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر.
- أجاد أنت؟ تقول إنه سعيد بما حدث؟
- كلمه أنت.. أليس صديقك؟ دار سيناء يا أستاذي بعد أن نفدت كتبه تستعين بثلاث مطابع في آن واحد لإعادة طبع الكتب، والمطابع تعمل ليل نهار كي توفرها في السوق في ظرف أسبوع واحد لمواجهة الطلب المتزايد عليها.
- هذا خبر سار حقاً.
- سار حقاً؟ اسمع لي أن أسألك: سار بالنسبة لمن؟
- للعشماوي بطبيعة الحال.
- للعشماوي ؟ وماذا عني وعنك يا أستاذ حسين؟ ماذا عن كتبي وكتبك؟ لماذا لم يأمر مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر بمصادرتها هي أيضاً رغم أنها تحوي من الأفكار ما هو أخطر ألف مرة مما ورد في كتب العشماوي؟ دليل المسلم الحزين" مثلا، أو الإسلام في عالم متغير، أو قبل السقوط، أو تكون أو لا نكون .. هل هذه الكتب في رأيك أقل خطراً من كتب المستشار العشماوي ؟ أم هي في رأي الأزهر لا غبار عليها من الناحية الدينية ككتب الشيخ الغزالي أو الشيخ القرضاوي.
- الحقيقة أنني....
- لا يا أستاذي الفاضل.. ليس الأمر كما تظن.. بل أكاد أجزم الآن بأن العشماوي لابد قد دفع مبلغاً ضخماً لجهة ما كي توصي مجمع البحوث الإسلامية بمصادرة كتبه.. من المحال أن نجد تفسيراً لما حدث غير هذا التفسير.. العشماوي - بحكم خبرته وثقافته . يعلم أن بعض المؤلفين الأوروبيين والأمريكيين يلجأ اليوم إلى رشوة نقاد ليقوموا بمهاجمة كتبهم في الصحف والمجلات الأدبية على نحو يثير شوق قراء الصحيفة أو المجلة إلى شراء الكتاب لقراءته، ويعلم أنه لولا مصادرة السلطات في فرنسا لرواية فلوبير مدام بوقاري ورواية زولا "الأرض" لما حظى هذان المؤلفان بما حظيا به من الشهرة والثروة وذيوع الصيت.
-ألا يمكن أن يكون أعضاء مجمع البحوث قد أصدروا قرار المصادرة متطوعين مشكورين غير مأجورين، من تلقاء أنفسهم، ودون سابق اتصال من جانب العشماوي بهم؟ لا يا أستاذنا الكبير وإلا فلماذا لم يصادروا أيضاً كتب فرج فودة وحسين امين؟ هه ؟ جتنا نيلة في حظنا الهباب .. الحقيقة أنني قد بدأت أغضب من العشماوي.. كان من واجبه، ونحن الثلاثة نجاهد في سبيل قضية واحدة ومن خندق واحد - أن يستشيرنا قبل إقدامه على الاتصال بمجمع البحوث، أو أن يلفت نظر المجمع إلى كتبنا نحن أيضاً باعتبارها جديرة مثل كتبه بالمصادرة .. أم أن الأمر لا يعدو أن يكون كل واحد يا لله نفسي وبس ؟!
- لا يا دكتور فرج.. الأرجح في رأيي هو إما أن أعضاء المجمع لم يقرأوا كتبنا نحن وقرأوا كتب العشماوي فأمروا بمصادرتها، وإما أنهم قرأوا كتبنا ووجدوها سليمة لا خطر منها.
- سليمة لا خطر منها ؟! سيدي الجليل، ما كتبه علي عبد الرازق في الإسلام وأصول الحكم، أو طه حسين في الشعر الجاهلي، لا يمكن أن يقارن خطره بخطر فقرة واحدة من كتبي أو كتبك.. كيف يمكن إذن للمجمع أن يجرؤ ويعتبرها سليمة لا خطر منها؟ أما عن احتمال أن يكون أعضاء المجمع غافلين عنا وجاهلين بكتبنا، فما علينا إذن إلا أن ننبههم إليها.
- كيف ؟
- بالكتابة إليهم.. بتحريض أصدقاء لنا على تقديم الشكاوي من أفكارنا.. أو بأن نطلب نحن مقابلة شيخ الأزهر أو رئيس المجمع نفسه لتوضيح الأمور ووضعها في نصابها وتنبيهه إلى أن في كتبنا خطرا على المجتمع الإسلامي لا يمكن السكوت عليه.. سليمة لا خطر منها ؟! يا دي الفضيحة !! هذه إهانة.. إهانة يعاقب عليها القانون.. كيف يمكن أن أرى وجهي للناس ومجمع البحوث الإسلامية يعتبر كتبي سليمة ولا خطر منها؟ ما جدواها إذن؟ وما جدوى تعبي في كتابتها؟ جتنا نيلة في حظنا الهباب ."
انتهى الحوار الحقير الذي نقله الأستاذ حسين أحمد أمين عن رجل يروج له اليوم بأنه شهيد وما كان الا انتهازيا عاشقا للشهرة والتربح الرخيص عبر الطعن في دينه وثوابته.
لاحظ هنا أن هذا الحوار الذي لم ينقله ويكتبه شيخا من شيوخ الأزهر، ولم يدع هذه الادعاء تابع من أتباع الجماعات الإسلامية التي نذر فرج فوده حياته لقتالها، وإنما من كتب هذا الكلام رجل يساري من غلاة اليساريين، يتفق مع فودة كثيرًا ومن نفس عباءته وطينته ولون تفكيره، وهو حسين أحمد أمين.
أثق أن كل من يقرأ هذا الحوار تتكشف له شخصية فرج فوده الحقيقة ذو الطبيعة الانتهازية التي لا تحترم دينا أو خلقا في سبيل معبودها الأكبر وهو حب الشهرة الجارف، على حساب دينه ووطنه وهوية أمته.
وفرج فوده الذي كشف حقيقته هذا الحوار الذي نشر في حياته ولم يكذبه، لا تحسبنه بدعًا من القوم، بل هم جميعا بهذه الشاكلة لا يمهم دين أو وطن أو هوية، وإنما معبودهم الأول أطماعهم ومكانتهم وأنفسهم ومصالحهم التي هم على استعداد لتحقيقها ولو بالتحالف مع الشيطان.!
*****************
ملحوظة مهمة: ليس معنى أننا ننتقد فرج فودة في بعض أفكاره، أننا نؤيد جريمة قتله وتصفيته، بل نؤكد أن قتله واغتياله جريمة بشعة وخروج عن القانون، وعمل إرهابي متطرف، لأنني ممن يؤمنون ان الفكر لا يرد عليه إلا بالفكر، والقلم لا يواجه إلا بالقلم، لابد من تبيين ذلك حتى نقطع السبيل على بعض الحمقى الذين يتصيدون في الماء العكر.. وأؤكد أنني أنطلق من ثقافتي الأزهرية ووعيي الوسطي المعتدل، الذي يمقت التطرف من كل سبيل، ولا علاقة له بأي جماعة أو يمثل أي تيار.





































