أحيانا أسائل نفسي: كيف تركت الدكتورة بنت الشاطئ تفسير الشعراوي يمر ويصدر في زمانتا دون نقد ولسع وغمط؟
كيف أفلت الشيخ الشعراوي وتفسيره من غيرة بنت الشاطئ التي كانت ترى نفسها عمدة التفاسير، وحكر المفسرين ومرجع التفسير.؟
والسيدة ابتداء حتى لا يظن أهوج الفهم مخلول الوعي انني أهاجمها او أنتقص من قدرها… ولكنه مجرد حديث عن الغيرة التي ثبتت للعلماء، فمما قيل: يغار العلماء من بعضهم كغيرة التيوس في حظائرها..
لقد "دافعت عن العروبة والإسلام وخاضت بقوّة سجالات فكريّة ذوداً عن اللّغة العربية والبيان القرآني، ودعمت تعليم المرأة بعيداً عن شعارات النّسوية الغربية، كما وقفت بوجه ثنائيّة التّعليم والمناهج التغريبية، واعتبرتها جرثومة تنخر في المجتمع العربي والمسلم. وانتقدت الأفكار ذات العلاقة بالصهيونية العالمية، وتجلّى ذلك من موقفها الشّهير من البهائيّة، فكانت من أبرع نماذج من أعلام النساء في الإسلام التي ننظر إليها ونبحر في علومها."
ومع هذا يتذكر الجميع ولا ينسى أبدا تلك المعركة التي قامت بين الدكتورة بينت الشاطئ والدكتور مصطفى محمود حول كتابه (القرآن الكريم محاولة لفهم عصري) وطبعا كانت المعركة من طرف واحد، ففي الوقت التي صبت بنت الشاطئ غضبها على الدكتور مصطفى محمود، كان الآخر غارقا في الدهشة والعجب من تصرفها، فماذا حدث؟
قال الدكتور مصطفى في مذكراته أنني حينما شرعت في تأليف كتابي لم أشرع في طباعته قبل أن أعطيها نسخة منه، لتطلع عليه وتقول رأيها فيه، لأني كنت أقدر وأعتز بآرائها في قضايا الدين، فقد كانت عالمة في مجالها بمعنى الكلمة، وفوجئت في أحد الأيام باتصال تليفوني منها تطلب مني زيارتها في منزلها، فذهبت على الفور، وبمجرد أن رأتني حتى قالت: إيه الأسلوب الرائع ده، اجتهاد رائع وعمل تحسد عليه، وسيلاق إعجاب الجميع، وقالت: هل اخترت للكتاب عنوان ولا لسه؟ فقلت لها: هيكون شرف لي لو اقترحت علي اسم، فقالت : اسمع سمه التفسير العصري للقرآن، وبالطبع الاسم عجبني جدا، وعلى الفور أطلقته على كتابي، ولكني تأثرت جدا فلماذا فعلت كل هذا الهجوم مع أنها من سمت الكتاب؟ ويعد هذا دليلا على أنها اقتنعت بمضمونه، وأحزنني كثيرا هجومها علي وعلى الكتاب في جريدة الأهرام، واتهمتني بأنني نموذج لمن يتكلم في القرآن بغير علم، وأنها تخشى على الإسلام من هذه البدع، وأخرجت كتابا كاملا تهاجمني فيه، ولم أعرف إلى اليوم سر هذا العداء الرهيب، رغم أنها وافقت على الكتاب قبل طباعته، وقالت: تفسيرك عصري وجميل، ولذلك أطلق عليه التفسير العصري"
وبعد انتهاء كلام الدكتور مصطفى والذي لا يمكن أن نكذبه، فإن موقف بنت الشاطئ قمة الغرابة، فهل يا ترى كانت في غيبوبة وهي تمدح الكتاب؟ أم أنها انطلقت في المديح قبل أن تقرأه ثم اكتشفت ما يناقض أفكارها ومضامينها، أم أن مشاعرها تحولت بعد ذلك للغيرة الشديدة من هذا المؤلف للكاتب الشهير؟!
ومما يؤخذ على بنت الشاطئ أثناء هجومها على الدكتور مصطفى ، أنها حاولت أكثر من مرة أن تقلل من قيمته فتصفه بقولها: الكاتب الصحفي، ثم تعقب ذلك ببعض العبارات التي توحي بروح الغيرة فتقول: "فجأة من حيث لا نتوقع ظهر تفسير عصري لكاتب صحفي مع ضجة إعلامية وحملة إعلانية عن حاجة الناس إلى تفسير عصري.
وحجتها أن هذا الكلام وهذا المنهج له مزالق خطيرة ويعد مخدرا للأمة وشبابها و نتيجة للشعور بالدونية والعجز أمام الحضارة الغربية، ووصف هذا المنحى بأنه بدع مدسوسة، تخرج عن التفسير والالتزام بمنهجيته إلى آخر ما ذكرت من حجج.
لكن المدهش أن هجومها لم ينل الدكتور مصطفى محمود وحده بل عرجت على تفسير علامة عصره الشيخ طنطاوي جوهري (الجواهر) وانتقدته انتقادا لاذعا وجعلته القلبة التي قصدها كل من كتب بهذه المنهجية في تفسير القرآن الكريم.
تقول بنت الشاطئ: "إن هذه المحاولات العصرية لتفسير القرآن هي نتيجة لصدمة التفوق المادي للحضارة الغربية.. قدم طنطاوي جوهري تفسيره (الجواهر) فوجدت فيه الجماهير ما يريحها من مهانة الإحساس الباهظ بالتخلف، وتسلل مفسرون عصريون جدد إلى الميدان وقدموا محاولات ساذجة لتفسير القرآن لطمأنتنا بأننا سبقنا عصرنا إلى كل ما يتطاول به الغرب علينا من علوم حديثة، لكن كل هذا مجرد مخدر."
كان الهجوم عنيفا في حوال خرج في عشرات المقالات.
ثم نأتي إلى المحاولة التفسيرية الثانية التي لم تسلم من هجوم ونقد بنت الشاطيء وهو نقدها لتفسير الظلال.
حين ظهر كتاب التصوير الفني في القرآن في مارس سنة ١٩٤٥ ، تحدثت عنه الدكتورة بنت الشاطيء في جريدة الأهرام، حيث كانت تقدم بعض ما تخرجه المطبعة العربية ناقدة أو مقرظة، وجاء في حديثها ما اضطر صاحب الظلال إلى التعقيب عليه بمجلة الرسالة العدد (٦٢٠) بتاريخ ۲۱ مايو ١٩٤٥ أي بعد أكثر من شهرين من ظهور الكتاب فقال ص ٥٢٩ ما نصه :" كتب كاتب - أو كاتبة - في جريدة الأهرام «أن هذا الكتاب محاولة للبحث في جمال القرآن سبقتها اتجاهات في الجامعة وللكتابة على هذا النحو أسباب خاصة ليس من شأني الحديث عنها ، كما أن وصف هذا العمل بأنه (محاولة) مسألة داخلة في دائرة التقدير المتروكة للقراء إنما يعنيني هنا الحقيقة التاريخية وهي انني بدأت هذا البحث ، ونشرت فصولا منه بعنوان (التصوير الفني في القرآن) في المقتطف عام ۱۹۳۸م ثم أخرجته كتابا في هذا العام، فأين هي البحوث الجامعية في هذا الاتجاه ؟ إن كان الغرض هو البحث في جمال القرآن ، فهذا بحث قديم قديم وإن كان الغرض هو البحث على نحو خاص غير مسبوق، فالواقع ينطق بأن ما كتب في الأهرام لا يطابق الحقيقية"
هذا ما قاله صاحب الظلال بعد أكثر من شهرين من ظهور الكتاب، والذين يعرفون لحن القول من الفهماء ، يعلمون أن قطب، كتب "كاتب أو كاتبة" معناه أن
الكاتب هو الأستاذ أمين الخولي و أن الكاتبة قد أملى عليها ماكتبت !.
لقد نفت بنت الشاطئ أو تعمدت هذا النفي لوجود الظلال بمنهجيته الأدبية وذكرت في مقدمة التفسير الذي أخرجته أن هذه المحاولات التي تمت خارج الجامعة ليست محاولات أصيلة لبيان البلاغة العربية ، لقد أنكرت في ذات الوقت وجود التصوير الفني ومشاهد القيامة وما صدر من أجزاء الظلال.. فهذا غمط للحق، وتجاهل متعمد مريب، لا يدفع إليه إلا غيرة علمية وسبق تفرد به غيرها.
ذكر أحد الباحثين أن صاحب هذا التفسير –الظلال- لم يزد على ترديد ما أحسه إزاء النص القرآني، وإذا صح أنه قدم تفسيرا للناس، فليس ذلك تفسيرا للنص، إنما هو تفسير لتجربته الذاتية في قراءته، حيث استغرقته التجربة مع النص، فعجز عن التفريق بين حقيقة النص كموضوع خارجي، وبين موقعه على النفس كذات إنسانية، وهو ما تشير إليه تسميته بـ «في ظلال القرآن». ويقول غيره: ان وراء هذه التسمية اعتبارات في مقدمتها إعفاء نفسه من قيود مثقلة تعوق التحامه بالقرآن والعيش في ظلاله، وإعفاء غيره -في ذات الوقت - من الالتزام بما يقدم من إفهام وانطباعات نفسية للنص القرآني.
ثم يعقب هذا الباحث في تقييمه لتفسير بنت الشاطئ مقارنة بالظلال فيقول: "أما المحاولة الثانية في هذا الصدد فهي «التفسير البياني للقرآن الكريم» الذي أعدته عائشة عبد الرحمن، تعتبر مثالا بارزا على تطبيق المنهج الأدبي في تفسير القرآن الكريم التي لا تفتأ تروج له في كل دراساتها القرآنية، وكتبها المتعلقة بالقرآن الكريم. ويؤكد الدكتور محمد إبراهيم شريف أن الدكتورة بنت الشاطئ تتحمس لهذا المنهج لترتفع بمحاولتها التطبيقية إلى أن تكون من خيرة الجهود الحديثة في التفسير "
إنه يفضل التفسير البياني على الظلال وتلك مقارنة عجيبة لم ينطق بها أحد من أهل التفسير والمتخصصين فيه، ولكننا هنا نسوق كلمة ذكرها علامة زمانه الدكتور محمد رجب البيومي وهو يقول ردا على أحدهم: إذا أراد (فلان) أن يصل إلى الغاية دون عناء من بحث موازن ممتد، فليقرأ تفسير سورة من سور القرآن كما كتبتها بنت الشاطئ متبعة منهج شيخها وداعية إليه، ثم ليقرأ تفسير هذه السورة نفسها في ظلال القرآن ليجد نفسه مندفعا إلى ترديد قول الشاعر القديم:
الشرق منزلنا ومنزلهم ** غرب وأين الغرب والشرق؟!
وعودة إلى الشيخ الشعراوي فالشيخ لم ينكر التفسير العلمي وغنما تحدث عن وجود الإعجاز العلمي في القرآن الكرم، كنوع من الرد على من يقولون انتهى عصر الإيمان وبدأ عصر العلم، فقال:
" إننا مع العلم وإشارة القرآن له، يجب أن نتروى وأن ندرس بإمعان وننتظر حتى تثبت الحقيقة العلمية ثبوت اليقين، قبل أن نتحدث عن ربطها بالقرآن الكريم، ولا نأخذ حديثا براقا يكون مجرد فرض، وليس نظرية علمية، فنكون حينئذ قد ارتكبنا خطأ كبيرا في حق القرآن عندما يثبت كذب هذا الافتراض"
أي أن الشيخ لا يمنع القول بهذا المنهج ولكنه فقط يبرز تخوفه منه في حالة الاستباق قبل أن تثبت صحة النظرية، مجرد تخوف وخشية من وقوع خطأ يتحمل عاقبته القرآن الكريم، وليس له فيه ذنب.