ما شهدته القاهرة ليلة أمس في دار الأوبرا المصرية وعلى مسرحها الصغير، حدث صفقت له كل مصر، وأراح ضميرها وطمأن قريحتها على مسار الثقافة والإبداع، فهذه الجموع الغفيرة التي حضرت وسجلت بمواضع أقدامها هذا التزاحم المثير، يجعلنا نقف قليلا لنتأمل المشهد، ففي ظل ما نعانيه من زخم الحياة وتلاهيها المادية التي تصرف الإنسان أحيانا كل ما ينمي معاني الروح ومباهج النفس ورقي الذوق، جاء المحفل الكبير ليطبع في الأذهان أن الثقافة في بلادنا ما زال لها جمهورها المؤمن بها، المتذوق لروحها، بل ما زالت لها هذه النخب التي تقف خلف الإبداع تسانده وتدعمه وتشد من أزره.
وأمام كل هذه اللمحات الجميلة المطمئنة التي أشرت إليها، ومع هذا التأمل الذي ألمحت أنه يجب أن نقف به حيال هذا الحدث، كان هناك معنى آخر لا يجب أن يغيب عن خاطر المتابعين والناظرين والمفكرين، فدار الأوبرا قليلا ما يكون لديها في كثير من ملتقياتها الثقافية هذا الحشد الطاغي، الذي حمدت الله أنني لم أذهب إليه رغم الدعوة الأكيدة التي وُجهت إليّ، نعم حمدت الله أنني لم أحضر لأنني لو فعلت لكنت قضيت كل الوقت واقفا على قدمي من شدة الزحام، أو بتعبير آخر من عنف الزحام.. وفي ذات الوقت غمرني الندم لأنني لم أحضر من فرط ما رأيت من بهجة الحضور وما أخبروني به من جلال الملحمة.. لقد أخذت أسائل نفسي هل كانت هناك أم كلثوم، حتى تجمع كل هؤلاء من الشرق والغرب؟!!
نعم فكثير من الاحتفاليات الثقافية التي تقيمها دار الأوبرا وبنفس الضيوف الذين كانوا على المنصة أمس، لم يكن لديهم هذا الحضور الطاغي كما رأينا ودهشنا ليلة أمس، فما السبب يا ترى؟ وما الدوي الذي جر كل هذا الجمهور بقلبه قبل قدمه ليكون أسيرا بين يدي هذا اللقاء؟
ولعلي هنا أضع يدي على ذلك السبب الذي ربما يتوه عن بعض الأذهان، فالليلة الماضية لم تشهد حفلا شعريا ناجحا فقط، ولم تكن ليلة سرى فيها الإبداع وتغنى في أبهى صوره، بقدر ما كانت في حقيقتها ليلة شاهدة بنجاح السيدة الأديبة (غادة صلاح الدين) غادة صلاح الدين التي أثبتت نفسها على المستوى الفني والإداري والحواري والأدبي والنجومية الفريدة وصلاحيتها الأكيدة لريادة المشهد الأدبي وبقوة.
إن هذه السيدة ليس لديها القدرة على حشد النخب الثقافية المصرية في مشهدنا الثقافي فقط، بل لديها القدرة كذلك على تحقيق النجاح، بما توفر لها من دقة التنظيم، وجيد الإبداع، وبراعة الأداء، وحسن الإدارة، وانتقاء المعنى وعمق السؤال، وتألق التركيز.
ويمكنني أمام هذا الحدث أن أقول: إن هذه السدة لو توجهت لها الأنظار، فإنها يمكن بكل جدارة أن تخدم مسيرة الثقافة والإبداع بالشكل الذي لا يليق بالمثقفين والمبدعين فقط، وإنما بالصورة التي تليق بمصر كلها.
بل أقول كذلك: إن حسن الإدارة وحسن الأداء ودقة الإعداد، موهبة حبا الله بها هذه السيدة المتفانية، التي لا تدخر وسعا في خدمة المثقفين والأدباء، والرقي بالساحة الثقافية ونخبها المميزة.
ربما يكون فيما أقوله بعض المدح والإطراء، أو ما يفسره البعض بأنه من قبيل المجاملة، أو تجنح بعض العقول لتعتبره نوعا من التملق والنفاق، وأنا معهم فعلا فيما يظنون وفيما يجنحون، لكن شيئا واحدا ينسف كل هذه الظنون والمخايل ليحيلها إلى أوهام بالية، وهو رؤيتها في التنظيم والإعداد وطريقة الحوار والتقديم والتأخير، بل في روعة الأسئلة التي وجهتها للضيف السامق، وكيف استطاعت أن تُخرج من جوفه تلك المعالم الإنسانية التي ألهبت وتر القلوب المستمعة التي لم يستطيع أصحابها أن يعبروا عن إعجابهم إلا أن يقسموا بأن ما حدث ليلة أمس، من ليالي العمر الفريدة حتى راسلني صديق لي بقوله: إنني قد فاتني نصف عمري لغيابي عنها.. مما اضطرني لمشاهدة البث المباشر وبعض اللقاطات الحية للقاء المدهش.
كل التحية لدار الأوبرا ولمسرحها الصغير الذي ناقض نفسه ليلة أمس وأصابه ذهول حينما رأى نفسه كبيرًا، وكأني به وهو يصرخ في الحضور امحوا عني كلمة صغير فلست اليوم صغيرا كما تزعمون، وكل التحية لهذه السيدة وعطائها الذي لا ينضب، وخطواتها التي لا تكل أمام كل التحديات لتثبت ذاتها وتؤكد للجميع اسمها الفارق وحضورها الفاصل.