من قال: إن الأديب صاحب الخيال لا يحاسب ولا يقاضى على ما ينسج بخياله في قصته.؟!
قوم من النقاد يؤمنون إيمانا جازما أن الأديب له مطلق الحرية فيما يسطر ويتقول ويكتب، فالخيال أمامه فسيح لا حدود له ولا عقبات تصده ولا حواجز تمنعه، متاح له أن يلج كل درب وبالصورة التي يرتئيها حتى ولو كانت في أخطر أو أقدس المناطق، بل حتى على حساب العقائد والأديان، لا يمكن لأحد أن يقاضيه على خياله وإبداعه حسب ما يتخيلون.
وفريق آخر يقف ضد هذا الرأي ويقول: إن الأديب الروائي، له مطلق الحرية في كل شيء إلا على ما يجافي ويصادم الحقيقة والدين والقيم والأخلاق والتاريخ.
وبعيدا عن هذا وذاك، ورأيا نقوله لمن يحتار بين الفريقين: ما فائدة الأدب والعلم والتاريخ والقيم والدين، أليست كلها مناهج قد اصطنعتها الرغبة الملحة في إصلاح الحياة والإنسان؟
أليس الأدب تحديدا من بينهم هدفه الأسمى أن يقيم الإصلاح في الأرض؟
لا شك من ذلك أبدا، وهو ما يدفعنا اليوم أن نقول وبكل ثقة: إن الحكم على الأشياء يجب أن ينطلق من أرض الواقع، أو نسائل هؤلاء المحتارين: أين الواقع من القضية؟
الواقع إذن حكم فصل في مثل هذه الأمور، فإذا كانت هناك رواية تخاصم الدين والقيم والضمير وتعبث بالتاريخ والحقيقة، أي تخالف الواقع بكل وضوح، فهي ضرب من العبث والتجني والكتابات الشيطانية التي تضر بالحياة، ولا يستقيم معها مستقبل الإنسان وعقله وفهمه ووعيه.
يقول القائل: علينا أن نحاسب العالم أو الباحث في كل كلمة وكل حرف، أما الأديب والمبدع فلا يمكن لأحد على وجه البسيطة أن يحاسبه في شيء.
ربما يكون ذلك ولكن لي هنا نقطة مطروحة يجب تأملها وهي..
انظر هذه الرواية التي تمتلئ بالإفك والزور وتخالف الحقيقة والتاريخ وربما تجافي القيم والدين، كتبها أديب ذو فكر ملحد منكر للأديان عدو للهوية في مجتمع مؤمن.. ثم تطورت الأمور والتقطتها يد السينما لتصنع منها فيلما يشاهده الناس لتنطبع في أذهانهم وأفهامهم هذا الإيمان الكبير بكل المفاهيم المعوجة التي نطقت بها الرواية، واستطاع الفيلم أن تصل تصوراته إلى كل العقول وكل الأفهام على اختلاف المستويات، ليخرج المشاهد وهو مؤمن بكل ما يقول الفيلم من تزييف وتحريف، ليكون أشد تأثيرا في الضمائر بما يفوق كتب العلم وأسفار الباحثين، فهل يمكن ساعتها وأما هذه الكارثة الكبرى أن نقول: لا يحاسب الأديب ولا يقاضى المبدع؟!
ألا إن الأديب عندي بهذه الصورة أشد في محاسبته من أي عالم أو باحث، لأنه أضر بالعلم وصادم المعارف المقررة في الحقيقة.
والناس والعوام لا شأن لهم بهذه الخصومة الأدبية، هم فقط لا يسمعون ولا يؤمنون إلا بما يشاهدون، ولا شأن لهم بما يدور في أروقة النقاد.
ومن هنا أرى دعوى من يدافعون عن حرية الأديب أنها دعوى غير عاقلة أو متبصرة بعيدة كل البعد عن رسالة الأدب ومسؤولية الأديب.. بل كانت سببا لكثير من الكوارث والتطرف والمفاسد العقلية وضياع الحق وانحراف الفهم.
وأؤمن كذلك أن من المروجين لعصمة الأديب، وجدوا هذه الدعوى من أنجح الطرق، لتحقيق مآربهم في غزونا الفكري، والكيد الماكر لهويتنا وديننا.