لم أكن أتخيل أبدا أن تقودني قدماي وأنا عازم على حضور الندوة الثقافية الشهرية التي يقيمها صالون الصديق والأخ الأكبر معالي الدكتور النابه (بسيم عبد العظيم) بسيم عبد العظيم في مدينة شبين الكوم.. أنني سأشهد لحظات أستمع فيها لأديب وشاعر من روائع الزمن الجميل، وكاتب روائي موهوب جعلني ألمس في حديثه طيف العمالقة الكبار من الجيل الماضي، ممن نعيش على آثارهم ونهتدي بإضاءاتهم.
وبصدق ودون مبالغة، وفي هذا الزمن الذي عز فيه وندر أن نرى أمثال هؤلاء العظماء، استطاع صالون الدكتور بسيم أن يتحفنا بهذه الدرة النادرة التي غمرها بحر النسيان والتجاهل، لمثل هذا الأديب والروائي والشاعر الكبير الأستاذ (أحمد بسيوني) المولود عام 38 أي قارب 85 سنة.
كنت ذاهبا للحضور وفي ذهني أن أقضي بعض لحظات أستمتع فيها لما يروقني، أو ألتقي بمن يوافقون هواي واهتمامي وأفكاري من المثقفين والمبدعين، فآنس بهم بدلا من هذا الفراغ الذي يؤرقني، والفقر الذي يخيم في قريتي الريفية من وجود هذه الطبقة التي أحبها وأستشعر معها بالأنس والجمال.
ولم أكن أتخيل أبدًا أن القدر يقودني لأجالس رجلا وأستمع لأديب من طبقة الأدباء الكبار في جلالهم وروعتهم وأصالة موهبتهم..
كنت أشعر معه وهو يتحدث أن روح القدماء تحاصرنا وتحفنا من كل مكان، وكانت عيني تخيل لي، أن الحكيم وطه حسين والعقاد وحافظ وشوقي معنا حاضرين، نخامر أنفاسهم، وتزاحمنا أجسادهم.
لم يكن الرجل ممتعا أو قيما في حديثه فقط، وإنما كان مبهرا وهو يحكي رحلة كفاحه التي خاضها موهوب في سبيل الثقافة، التي وهب لها وقته وجهده وعزمه وروحه وشبابه.
قدم الرجل حياة حافلة بالدروس والعبر، ومحطات مثيرة جديرة بالوقوف عليها والتأمل فيها.
بل علمنا ومنحنا من الدروس الحياتية، كيف يسير الأديب والموهوب والمبدع في حياته، إذا ضاقت به الدنيا ولم يجد من يتنبه له.
لقد وقفت حائرًا أمام هذه القامة التي تتحدث، وأخذت أسائل نفسي: كيف تغيب الأعين والأضواء، مثل هذه القيمة السامقة الفريدة؟، وكيف يتجاهل مشهدنا الثقافي هذا الأديب الكبير في الوقت الذي يحفل فيه بمن لا يساوون نصف أو ربع موهبته وإبداعه وعطائه.؟!
هل لأن الرجل من الجيل القديم الذي لا يحسن استخدام التقنية الحديثة ووسائلها من الفيس بوك وتويتر واليوتيوب فيعلن عن نفسه وكتبه وصولاته الأدبية المدهشة؟ فينال بعض ما ناله من هم أقل منه وأضأل من مكانته وموهبته وأثره؟!
لماذا لم يلمع اسم الرجل؟ ولماذا لم تحتف المنصات الثقافية بأدبه وموهبته وأعماله المتميزة، ولماذا لم تُقبل عليه القنوات الفضائية وتستضيفه الصحف والمجلات والأندية؟!
لكنها طبيعة أمتنا التي تهدر نوابغها وتتنكر لأفذاذها، ومن ثم فلا عجب ولا تعجب ولا دهش.!
أكثر من 30 كتابا أنتجها هذا الأديب ما بين الشعر والمسرحية والرواية والفكر والنقد، في ظل حياة طويلة محملة بكثير من المشاهد الثرية المدهشة التي كونت هذا الأديب وأثمرت موهبته الفذة، التي تفتقت وبانت ملامحها منذ صغره وصباه، وأدركها هو في نفسه وأخذ ينميها ويستجيب لها ويعمل على إثرائها، لقد بان له أسلوبه المميز وذائقته وموهبته التي تبشر بميلاد أديب له شأنه، لو أنه اهتم بها، وأنمى جذورها ورعا منابتها.
كانت أول هذه البشائر كما حكي لنا وقص من مطالع مسيرة حياته، ذلك اليوم الذي دعته جارة لهم، كان ولدها قد هجرها منذ سنوات وسكن القاهرة، وما عاد يسأل عنها أو يراعيها وهي كبيرة السن، جاحدا منكرا مهملا لأمة ومشاعرها، كانت الأم ملتاعة تتمنى أن ترى ولدها الذي جافاها، إنها تعرف عنوانه وتراسله دومًا ولكن لا مجيب ولو حتى بمجرد خطاب يهدئ به روعها، وذات يوم وجدت أم شوقي الصبي أحمد وهو ابن سبع أو ثمان سنوات، يلعب في الشاعر، وقالت له: تعالى يا أحمد انا عاوزاك، فقال لها نعم يا خالتي أم شوقي، هل تعرف تكتب؟ ابني سايبني وقاعد في القاهرة ولا يسأل عني ومحتاجاه يزورني وعاوزاك تكتب جواب لابني، فقال لها: طبعًا أعرف، وذهب أحمد ليكتب الخطاب وسبكه لها حسب تعبيره، ووضع عليه العنوان وانتهى منه، وبعد أيام كان يجلس في بيته وإذا به يسمع هرجا ومرجا وزيطة ومولد وزغاريد تضج من بيت جارتهم أم شوقي، ولما سأل عن هذه الجلبة، قالوا له: لقد عاد ولدها الغائب، الذي تأثر بخطاب الصبي أحمد من أسلوبه الشجي العاطفي الأدبي الذي حشد له فيه كل عبارات الشوق والشغف والحزن الذي اعتصر قلب أم تتلهف على ولدها.
رجع الولد الغائب وهو يبكي ويطالب أمه أن تسامحه، وتعفو عنه، وتغفر له جفوته وعقوقه، الذي انهار أمام هذه الكلمات التي أرسلتها في خطابها.
وكان الجندي المجهول الذي حقق هذه المعجزة، هو الصبي الموهوب أحمد بسيوني، الذي سعد كثيرًا ومنحته هذه النتيجة أن يثق في موهبته وأدبه، ويعرف أنه أديب يشق طريق الكلمة المؤثرة.. لقد كتب له عن بر الوالدين وفضل الأم، وأرعبه بتعبيراته مما جعله يسارع ليزور أمه.
أما الموقف الثاني فكان ذات يوم وجدته ابنة عمته التي تكبره سنا وهو في صباه منهمكا في الكتابة بكراسة له جعل عنوانها الأشقياء، فقالت له: ماذا تفعل يا أحمد؟ فقال لها أكتب خواطري الأدبية، فقالت له: على العموم أنا لا أفهم في هذا الكلام، لكن حاودي الكراسة دي لصاحبتي عواطف هيا بتفهم في الحاجات دي وفي مدرسة الملعمات وحاتبقى مدرسة السنة الجاية وهيا اللي حاتحكم.
قال لها : لا مانع .. لأنه يتلقف التأييد من أي أحد.
فأخذت الكراسة وبعد أيام جاءت بها، ووجد أحمد أن عواطف قد كتبت على الكراسة هذه العبارات التالية: أجبرتني أن أكتب إليك رسالتي، فلما أمسكت بالقلم وجدته ينساب على ورقتك الرقيقة معبرا عن عبقريتك التي تفوق سنك، فأضرع إلى الله أن يحفظك ويحفظ لك هذا الإلهام والله هو الموفق.
يقول: بعد هذه الرواية لقد وعدني الله بأناس يدعمونني ويحمسونني ويدفعونني للاهتمام بموهبتي.
وفي مشهد ثالث من مشاهد التحفيز يقول: حينما ذهبت إلى الصف الرابع الابتدائي، كان مدرس اللغة العربية، وكان هؤلاء المعلمون قديما يتبنون المواهب ويشجعونها ويهتمون بها، ويوما ما أنشأ لنا مسابقة تعبيرية وكتبت الموضوع مع زملائي، وفزت بالمركز الأول وأعطاني المعلم قلم حبر هدية، وكان هذا الموقف كذلك مما زادني ثقة في نفسي.
أكتفي بهذا القدر الطريف مما حكى الأديب والشاعر الكبير من مسيرة حياته، ولكن اللقاء كان مثيرًا ومؤثرًا لأبعد حد، وبه كثير من اللقطات الجميلة التي تستوقف عشاق الأدب والثقافة، لكنني لا أخفيكم أنني استأت كثيرًا من عدم معرفتي بهذا الرجل من قبل، فهل هو لجهلي أم لتقصير منه في معالم البروز، لا أعلم.. ربما كل ذلك، لكن يبقى الشكر الجزيل للدكتور (بسيم عبد العظيم) أن أعطانا فرصة التعرف على هذه القامة الفريدة والموهبة الرائعة.
--------------------------------------------
من أراد الاستماع إلى الحلقة فليراسلني على التليجرام