منذ أيام قامت الدنيا ولم تقعد على الكاتب الأديب أشرف الخمايسي، لأن إحدى الصديقات ذهبت إلى المكتبة، واشترت كتابا للأديب الراحل حمدي أبو جليل، تصفحته فوجدت عجبًا في صفحته الأولى، فالكتاب ممهور بإهداء من المؤلف إلى صديقه الأديب أشرف الخمايسي، إذن ما الذي جاء بهذا الكتاب إلى هذه المكتبة ليباع ويعرض للجمهور، لابد له أن يكون بحوزه الصديق الذي يبدو أنه فرط فيه وأهمل تقدير صاحبه له، فما كان من صديقتنا إلا نشرت صورة الإهداء وكتبت عليها هذا التعليق: "في ناس ما تستاهلش شوية الحبر اللي انكتب بيهم التوقيع فتفرط في إهداء جميل زي دا.. يا ألف خسارة ع المثقفين"
وهنا تفجر الموقف، وتحول المنشور إلى حرب كبيرة بين المؤيدين والمعارضين، ووجده خصوم الخمايسي سبيلا كبيرا للنيل منه والتنفيس عن حقدهم عليه، وانتظر الجميع أن يرد الخمايسي ليشرح الأمر، ويوضح حقيقة اللبس، ولكن رده جاء عنيفًا ناريًا على صفحته، محاط بكثير من الألفاظ الشديدة القاسية، لمن فجروا هذه الأزمة، وأظهروه بمظهر لا يليق، وكان يمكن له بكل سهولة أن يحبط هذا الكيد، لولا أنه سارع إلى تقليم أظفار المنتقدين.
علمت أن الموضوع لم يبدأ بعد، وأنه في سبيله للتضخيم والتهويل، وإثارة الغبار على الكاتب الكبير، خاصة من أولئك المتربصين به من حشرات العلمانيين والملحدين، ممن يكتبون في الصحف ويمتلكون منابر التوجيه والإعلام، ويشرفون على الملاحق الثقافية في كبرى الجرائد، ليكون هذا المسلك طريقة قذرة لتصفية الحساب معه، وعقابه على توجهه القيمي والديني، وانتصاره للهوية الإسلامية في تصريحاته وكتاباته المعلنة.
لقد حاولت أن أجد أي مبرر للكاتب الخمايسي وعذرًا أحتج به عنه، لكن منشوره العنيف قطع علي أي تبرير له، إلا أنه حسب دفاعه.. حريته الشخصية وله أن يفعل ما يشاء، يمكن جدا للخمايسي أن يكون له عذره المقبول، لكن الكلمات المهولة التي ووجه بها، جعلتها يمتطي سيف القلم ويجرح في المعرضين به، بصورة لا تليق، والحق هنا أحق أن يتبع، فالخطأ ابتداء وقع من الصديقة التي نشرت المنشور وأهانت الرجل بكلمات لا تليق.
وفي ظلال هذا المشهد، يمكن لك أن تلمس طبيعة المشهد الثقافي والمسرح الأدبي وكيف يمتلئ بالأحقاد والمكائد التي لا تليق بأناس طرقوا أبواب الثقافة، وفهموا معناها، وتقربوا بها إلى التحضر والرقي، اذهب واقرأ التعليقات لترى ما يندى له الجبين وكأن الرجل قد أجرم في حق الوحي والقرآن.
أتذكر بقوة ما قرأته يوما عن فولتير، حينما أهدَى صديقًا من أصدقائه نسخة من كتاب له، وكتب عليه ذلك الإهداء، وبعد زمن وبينما هو يتجول في سوق الكتب القديمة، رأى نسخة من كتابه هذا معروضة لدى الباعة، فأمسك بها وتصفحها، فإذا بها نفس النسخة التي أهداها إلى صديقه هذا وعليها إهداءه بخط يديه، حزن فولتير حزنا شديدًا، ولكنه لم يفعل كما فعل أعداء الخمايسي، حينما وجدوها فرصة للتشنيع عليه، فقد كان فولتير مصلحا وفيلسوفا و حكيما ومهذبا، تلك الحكمة التي ظهرت في رد فعله، حينما اشترى هذا الكتاب، وذهب إلى صديقه وأهداه له مرة أخرى، ليُعلمه درسا قويا في الوفاء، واحترام مشاعر الأصدقاء.
الكاتب إبراهيم عيسى سجلت الأحداث أنه واحد من هؤلاء المستهترين بكتب الأصدقاء المهداة إليه، ونفس الصديقة قد أصابني العجب منها حينما علمت أنها كذلك قد وقع في يديها كتاب لصديق من أصدقاء عيسى قد أهداه إليه وفرط فيه صاحبنا إهمالا واستقلالا.
كنت منذ عامين قد حضرت مجلسا ثقافيا احتفاء بكتاب ألفه أحد الكتاب الكبار، وكان يشاركنا صديق له وهو كاتب مرموق، وقد صحب معه في الأمسية عددًا محدودا من كتب ثلاثة كان قد ألفها، وكان أغلب الحضور من المحبين للاستماع، لكنهم لم يكن فيهم كاتب واحد، تغريه هذه الكتب عند قراءتها ليستخلص منها أفكارًا وأفكار.
ربما يحبون القراءة، لكنني حينما قارنتهم بنفسي، رأيت أنني أولى منهم بهذه الهدايا، وحينما بدأ الرجل في توزيع هداياه، صرت في حالة من عدم الاتزان، ولا أعلم وقتها ماذا وكيف سيكون حالي لو أنني لم أصب نسخا من هذه الهدايا، ولكن الله سلم ونلتها، فاسترحت وهدأت، وانتفعت بهما انتفاعا طيبا.
بدأت مرحلة التأليف والطباعة، منذ أن كنت طالبًا في الكلية، وقد زار المكتبة يوما أحد أساتذتي، ورأى فيها بعض كتبي، فسر لذلك سرورا عظيما، سرور الأستاذ المخلص لتلميذه النجيب، ولما زرته في بيته أخرج لي نسخة باقية من كتاب ألفه وقال لي: أنت أحق بها من غيرك.
لم يكن فرحي بالهدية إلا لأنها نابعة من تقدير كبير من أستاذي لمسته وشعرته، فقد تغيرت نظرته إلى كثيرا بهذه الخطوة.
عرفت الإهداء أول ما عرفته منذ صغري، وعلى ضفاف مكتبة والدي رحمه الله، فقد كان فيها كتب ودواوين مهداة إليه من أصحابها الكتاب والشعراء مكتوبة بالقلم الحبر القديم، لكني لاحظت من بينها ديوانا لشاعر يسمى العوضي الوكيد، وقد أهدى ديوانه، لرجل اسمه نجيب لا أذكر بقية الاسم، ولكن نجيبا هذا فعل شيئا غريبا، إذ كتب تحت إهداء العوضي: وأنا بدوري أهديه إلى صديقي الأديب (إبراهيم سلامة) محبة واعتزازا.
فهمت من يومها أنه ليس عيبا أن تهدى إليك الهدية، فتهديها لغيرك.. خاصة إذا رأيت وعلمت أن هذا –الغير- من يمكن له الاستفادة منها أكثر منك.
وعلى جانب آخر، يقف أناس متحسسون من هذا الفعل مستنكرون لحدوثه، لأنهم يقدسون الوفاء والمشاعر إلى حذ غذير، ويرون في التفريط في الهدية، تفريطًا في مشاعر من أهداها إليك بحب واعتزاز.
ولعل هنا درس دقيق أحب التنويه إليه خاصة في وعي كتابنا الصغار، فالكاتب المبتدئ حينما يؤلف كتابًا يشعر بسعادة فائقة، ويتخيل له أن الدنيا كلها تحتفي بتفوقه وتهيم بمنجزه، ويتمنى لو أن الناس قاطبة تحدثت بمؤلفه وأشادوا به في غدوهم ورواحهم، بل يتوق أن يهديه للجميع حتى يصفقوا له على ما أنجز، وهنا تدفعه حماسته أن يهدي كتابه في كثير من الأحيان إلى بعض من لا يستحقه أو يقدره حق قدره، دون التمييز بين طبيعة المهدى إليهم، هل هم ممن يحترمون الثقافة والمعرفة، ويثمنونها ويعشقون سبلها، أم أنهم لا يلقون لها بالا ويرونها عملا مملا تافها لا فائدة منه ولا منفعة.!
ولو أنه أهداه للصنف الثاني فلا يلومن إلا نفسه، إن حدث بكتابه مالا يرضيه، لأنه لم ينظر إلى التربة الجيدة التي يضع فيها بذرتها اللائقة بها، ومهما يكن من الأشخاص من يعز عليك، فتأكد أنه يفصل بين معزته وتقديره لك، وبين كتابك الذي لا يعني له أي شيء، بل قد يراه عبئا حملته إياه.