هب أن امرأة جميلة طلبت مني باقة من تلك الأزهار التي تتشابك سيقانها بالشوك الجارح في حقل متعثر بالأخاديد والحجارة، لتستنشق عبيرها، وتسعد ببديع مشهدها وجميل تكوينها.. ألا يكون لي في هذه النشوة نصيب أو دور؟
بلى فأنا من تسبب في هذه السعادة وجلب هذا الجمال، واستطاع أن يملأ الجو بعبق هذه الزهور، فإذا حَمَدَت المرأة بديع الزهور وجمالها الأخاذ، وارتاحت سكينتها لعطرها الفواح، وجب عليها أن لا تنساني من شكرها وامتنانها كلما قربتها من أنفها أو وجهها لتنعكس في بريق عينيها، ولو أنها تنكرت لي فقد جحدت فضلي ودوري ولم تقدر جهدي، صحيح أنني لست أنا من نسج هذه الزهور وهيأها على ذلك الشكل الزاهي البديع، ولست أنا من عجنها بهذه الرائحة العطرة الطيبة، لكنني أنا من تسبب في إسعاد كل من أمسك بها.
هذا المشهد تمامًا هو ما يحدث فيما نكتبه من مقالات وسطور تحمل الرؤى والأفكار المتنوعة، فنحن نستقي مكتوباتنا من تراث السابقين ومعين السالفين، وكتب الأولين، لكننا نزيد عليها بالتحليل والنظر حتى نستخرج منها عبرة أو عظة أو فكرة جديدة نلفت ونوجه إليها.
وهنا تحديدًا يسطع عليها بعض الجهال، فيقول أحدهم ماذا قدمت وماذا أبدعت؟ أنت لم تأت بجديد! لم تحدث إبداعًا حتى تكون من أصحاب الفكر والخلق والتجديد.!
ولعل هذه الشبهة لو سار بها هذا المتقول، فلن يرى لأي كاتب في الدنيا أي فضل أو ابتكار، لأن الكل يبني فكره وطرحه على ما سبق من علوم السالفين، حتى المبدعين من أصحاب الخيال الخلاب، نرى بعضهم يستقي فكرة روايته أو قصته من مشهد قرأه في كتاب سابق فتولدت لديه فكرة جديدة أضاف عليها من خياله ونظره ورؤاه.
أذكر مرة أن أحدهم قرأ مقالا من مقالاتي وقال لي بكل صلف وغباوة و ضيق وجهالة: لم أر لك أي إبداع وكل مقالاتك وصفية تبني سياقها على ما سبق.
والحق أن العماية التي تصيب القارئ عن الفكرة التي تحملها السطور، من أشد ما يجده الكاتب من عنت وظلام وجالة تصيب بالإحباط.
كان شيخنا الدكتور محمود عمارة رحمه الله يقول: "الناقل من كاتب واحد سرقة، والناقل من أكثر من كاتب ثقافة"
نعم إنها الثقافة إذن التي يقف خلفها تاريخ طويل من القراءة والفحص والجمع والحشد والاستدعاء الذي يصب بروافده في معين جديد يحمل فكرة جديدة يدور حولها الكاتب.
وإذا حاولنا أن نتأمل كلمة بحث، أو أمسكنا بأيدينا أي بحث، لنجده بنى عماده وأساسه على النقول القديمة والمكتوبات السالفة في الأمر الذي يتحدث عنه لصل إلى النتيجة المرجوة التي هو بصددها، حتى الرسائل العلمية تبني أصولها على هذه المنهجية التي تدل في المقام الول على ثقافة الباحث واطلاعه الواسع وهو الهدف والغاية، حتى ينال الدرجة العلمية.
منذ أيام كتبت ردًا على الأستاذ عباس خضر في مذكراته (ذكرياتي الأدبية) والتي طرح فيها رأيه عن عبقريات الأستاذ العقاد، وقال فيها بذات العبارة: " والواقع أن إنتاج العقاد معظمه ترف عقلي أكثر مما هو في خدمة المجتمع، وليس في العبقريات وأمثالها من جديد ذي قيمة، فهي أولا تاريخ معروف في أصوله وأمهاته، وثانيا تحليلاته مثل غيرها من التحليلات لا تعد قمة في الفكر المبتدع الذي يضيء للناس."
ولن أنساق كثيرا في الرد على هذا الجحود ولكني وبعد أكثر من خمسين صفحة في ذات المذكرات التي ذكر فيها هذا الكلام عن عبقريات العقاد، وجدت الرجل يناقض نفسه، ويبرهن على ضلال رأيه، وأن كلامه عن العقاد كان مبعثه الكره والادعاء الساذج الذي يحاول به أن يضرب العبقريات التي تعد أروع ما كتب في السيرة في العصر الحديث، حتى قال عنها شيخنا الغزالي :"لا يكتب عن العباقرة إلا عبقري"
ماذا وجدنا إذن عند الأستاذ عباس خضر؟
في المعركة التي نشبت بين الدكتور زكي نجيب محمود وبين الناقد اكبير أنور المعداوي حينما أصدر كتابه (نماذج فنية من الأدب والنقد) فأشار زكي نجيب إلى الكتاب إشارة أغضبت الثاني، فهجم عليه المعداوي هجومه المعروف بالحدة، فرد الأول وتساءل بسخرية: لست أدري ماذا لو لم يوجد أعلام الأدب والفكر..؟ ويقصد بهذا أنه لا يأتي بشيء من عنده، فكل ما يكتبه تعليق على غيره.. وقال - أي زكي نجيب -: ومع ذلك يدفعه الغرور إلى أن يسمي كتابه (نماذج) ...إلخ.
ثم يقول خضر: " والذي أراه أن الدكتور لم يكن محقا في تساؤله ذاك، فكل دارس إنما تقوم دراسته على وجود من خلفوا آثارا تدرس، ودراسات الدكتور نفسه كذلك وإن كانت له إضافات مثرية أصيلة."
وأنا أتعجب لماذا لم يقل مثل الأمر وذات الدفاع في عبقريات العقاد، لماذا تبنى شبهة زكي نجيب محمود على المعداوي في رأيه عن عبقريات العملاق؟
أرى أن الرجل يكيل بمكيالين، وأن الحنق على الأستاذ العقاد هو الذي جعله يتعامى عن هذا العذر الذي أبداه لكتاب المعداوي ولام عليه زكي نجيب محمود، وكان الأولى به أن يلوم نفسه من قبل، لكن الرجل وقع في الفخ وناقد نفسه فيما أثار من شبهات.