الناقد الماهر هو الناقد الذي يوجع بكلماته دون أن يكون ظاهرها إيجاع.
والكلمات الموجعة المواربة باب من أبواب الفطنة والحنكة والذكاء، لا يفطنها أي أحد، فهناك من يضرب بلسانه ولا يبالي ليقفز من فمه بثقيل الكلمات وشديد العبارات.
وهناك من ينتقي كلماته التي تبدو في ظاهرها مهذبة عاقلة مألوفة، ولكنها تحوي في أعماقها ما يفجع القلب ويستفز النفس ويهيج غضب الروح.
وأنت إذا نظرت إلى قول الحطيئة في الزبرقان بن بدر حينما هجاه بقوله:
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها** واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
فإنك حيال هذا البيت لا تجد فيه شيئا ذا بال، لا تجد فيه سبا أو شتما أو قذفا عنيفا يستوجب ثأر المهجو، ولكن النقاد عدو هذا البيت من أشنع وأبشع ما قيل في الهجاء.
لماذا إذن؟
لقد جاور الحطيئة الزبرقان فلم يحمد جواره، فتحول عنه إلى غيره ولم يفته أن يهجو الزبرقان فكان هذا البيت مما قاله فيه.
وحينما سمع الزبرقان ذلك، لم يهنأ له عيش أو قرار، فأسرع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكوه أمر الخطيئة وما قاله فيه.
فقال له عمر: ما أرى هذا هجاءً؛
أو قال: ما أسمع هجاء، ولكنها معاتبة. (وفي رواية أخرى: أما ترضى أن تكون طاعمًا كاسيًا؟، وفي رواية ثالثة: ولكنه مدحك).
وعمر هنا لم يكن جاهلا بفحوى الكلام، فقد كان أعلم الناس بذلك، ولكنه أراد درء الحدود بالشبهات.
قال له الزبرقان: "أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس؟!"
قال عمر: عليّ بحسان، فجيء به ليحكم، فقال: "لم يهجُه ولكن سلح عليه" (أي تغوّط، كناية عن شدة الهجاء).
ويقال إنه سأل لبيدًا كذلك، فقال:
"ما يسرني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه وأن لي حُمُر النّـعم" ( أي كرام الإبل).
------------------
يتمثل إلي من وحي هذا الموقف مكر عميد الأدب العربي طه حسين، لقد كان الرجل ذكيا جدا وداهية جدا.
كان في بعض الأحايين إذا أراد أن ينتقد انتقادا مرا، يتقول بكلمات يبدو ظاهرها هادئا لينا بسيطا لا يبعث على غضب ونكران.
لكنك لو تأملت قليلا في فحوى ما نطق به لرأيتها كلمة تراق في سبيلها الدماء أو تطير على منطوقها الرؤوس.
وهي الكلمة الحويطة التي كان طه حسين يستخدمها مع بعض أعلام عصر حينما يريد أن بدي رأيه في مؤلفاتهم أو حينما يحاول أن ينتقدهم فيها، فهو هنا لا يسب أو يشتم أو يهاجم أو يسخر، وإنما يكفيه فقط أن يقول: أنا لم أفهم كتاب فلان.
وفي سيرة طه نجده قد فعل هذه الفعلة مع اثنين من أعلام العصر وأدباء الدهر.
فعلها مع الإمام الرافعي حينما علق على كتابه تاريخ آداب العرب الذي ألفه عام 1909 وكان طه وقتها طالبا بالجامعة فقال في مقال نشره في (الجريدة) عام 1912م وأعلن فيه أنه لم يفهم من المقال حرفا.!
أما الثانية فقد فعلها مع العقاد بعد موته ليثير حفيظة تلامذته بأن صرح في اللقاء الشهير الذي استضافه فيه التلفزيون المصري بقوله: "اعترف أني لم أفهم عبقرية عمر ولا عبقرية الصديق، وتعجبت عندما قرأت عبقرية محمد لأنه وازن بين موقعة بدر ومعارك نابليون"
وكلمة لم أفهم، كلمة شديدة وعنيفة، فهي تعني إن صدرت من جاهل أن تدل على جهله، ولكنها تعني إن صدرت من عالم أن العيب في صاحب الكتاب.
وكلمة لم أفهم، كلمة كما قلت رقيقة طريفة لينة لا تدل على شيء، وظاهرها أنك تنتقد نفسك لا تنتقد الآخرين، لكنها تعني في فحواها نقد الآخرين، وكأنها تريد أن تقرر فشل الكاتب، في أسلوبه وتعبيره ومنطقه وبيانه إلى الحد الذي استعجم أمره على القراء فلم يفهموا شيئا.
وإني لأعترف في هذا السياق أنني لم أفهم أسلوب الأستاذ محمود شاكر خاصة في كتابه الشهير (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) الذي يحمده القاصي والداني من أنه درة المؤلفات وأروع المكتوبات.. أجهدت نفسي كثيرا أن أعيش أسيرا لجمله وعباراته فلم أتذوق منه شيئا، وصرت أتعجب وأقول: كيف لهؤلاء المادحون أن يجدوا حلاوة في أسلوب شاكر بينما أنا لا أراها ولا أتذوق منها شيئا؟!
إنني لا أفهم شيئا.!
وأخيرا اهتديت وعرفت أن هناك نوع من الكتاب الكبار لن تستطيع أن تشعر بأنغام أسلوبهم حتى تتدرب عليه وتعيده وتكرره حتى تحل شفرات ذوقه.
وشاكر من هذا النوع الذي يريدك أن تتدرب عليه حتى تشعر بلذته.
لكنني هنا حينما أقول لا أفهم أسلوب شاكر، فلا يمكن أن يتساوى كلامي بذلك المقصد الذي يريده طه حسين ممن ينتقدهم، فأنا لا أنتقد شاكرا، ولا يمكن لي ذلك إذ لا أبلغ ذرة من تراب علقت بكعب حذائه، فكيف للثرى أن يطاول السماء.
ولأنني نكرة في عالم المعرفة، مطمئن جدا أن كلامي لن يؤخذ أنني أعيب تراث العلم الكبير، وإنما سيتبادر إلى الذهن سريعا أن المشكلة فيّ أنا وليست في شاكر صاحب إمام العربية وعمدة المحققين.
ناهيك عن هذه الكلمة حينما تكون أخطر كلمة تعبر عن أخطر نقد لو أنها بدرت من عالم فذ أو أديب مشهود، فإنها لتكون نقدًا من قبيل ما نقد به الخطيئة غريمه، كلمة يسيرة هادئة لينة، لكنها تجر في أحابيلها عواصف وأعاصير، تماما كما كان يدرك مغزاها طه حسين.