منذ فترة ونفسي تحدثني أن أطبع عددًا من صور المفكرين والعلماء الذين أحبهم وأجلهم، وكان لهم تأثير كبير في ذائقتي ومعرفتي.
إنني أريد تعليق هذه الصور في حجرة مكتبي أو أضع بعضا منها عليه أمام ناظري، أريد أن أشعر بهم أمام عيني يصاحبونني كلما قرأت أو كتبت.. بداخلي إحساس كبير أن وجودهم يبعث على الحماس ويحفز على الإبداع والإلهام.
هل فعلا ينبعث هذا الشعور في نفسي، وأجد ضرورته في ذاتي، أم أنني فيه من المقلدين؟
حتى لو قلدت، فقد وجدت هذه الفكرة تناسبني، ويطرب لها هواي، وتجدها نفسي من أدوات الكاتب المُهمة التي يجب أن يستكملها.
وإذا كان الكاتب يُسلح نفسه باستكمال أدوات الكتابة من تجميل الأسلوب وصقل البيان، فلابد له من قسطه المهم في استجلاب الالهام، وشعوره بصحبة أهل الفكر والابداع ممن سبق من العظماء، من خلال صورهم المعلقة المنصوبة.
نعم إنها الصور الملهمة، التي تفتح مغاليق الابداع للكاتب كلما أراد أن يكتب ويبدع، ليشعر بهم أمامه ومعه في حضرته، يحمسونه ويشجعونه أن يكون منهم ومثلهم، يخاطبهم أحيانا ويناجيهم أحيانا أخرى، كلما أراد أن يكتب ويفكر ويتميز ويثمر.
وإذا كان الكاتب يهتم دوما بمكتبته، ويرى أن أرففها أكبر باعث على الالهام حينما تصطف مرصوصة يتلاحم بعضها ببعض، وهي تحمل أسماء أصحابها الكبار، فإن صور هؤلاء الأعلام، لا تقل في بعث الهمة عن قامات كتبهم.
ولقد جاءت فكرة هذا المقال حينما جدد باعثه في همتي، ذلك الحديث الذي دار بيني وبين صديقي الدكتور أسامة العربي، وقد كان من التلاميذ المقربين من العلامة الراحل دكتور محمد رجب البيومي، وكان مما ذكره لي من هيئة حجرة مكتبته ومكتبه، أنه كان يعلق على الحائط بعضا من صور الأدباء والعلماء والعباقرة التي اقتصها من الجرائد.
وكان منهم العقاد وأحمد لطفي السيد وعلي الجارم، وبتهوفن وعبد الوهاب.
ولقد جاء الحديث على هامش ما كتبته عن الإمام الرافعي الذي كان أيضا يدرك سر الصور في استجلاب الإلهام، فكان مما ذكرته أنه كان يضع على مكتبه ثلاث صور، صورة الشيخ محمد عبده و صورة الرياضي (صاندو) و صورة ملكة جمال تركيا في وقت مضى (كريمان هانم خالص) و عندما سئل عن اجتماع تلك الصور، قال عن صورتي الشيخ محمد عبده و صاندو: هاتان قوتان تعملان في نفسي: قوة في روحي، و قوة في جسدي فسأله عن الصورة الثالثة فقال: و هذ.! ما أجملها! انظر! ألا تقرأ شعرا مسطورا على جبينها.
وكان ممن أولع بصور المفكرين والأدباء والفلاسفة، إلى الحد الذي صار يعتقد أنه لا يمكن أن يكتب إلا في حضرتهم، بل تطور الأمر معه بشكل مذهل من مجرد صور معلقة، إلى إيجاد تماثيل مجسمة، يرصها أمامه وهو يكتب ويؤلف، فهو أستاذنا عبد الوهاب مطاوع، بل كان دائب البحث في سفرياته عن هذه رؤوس التماثيل لهؤلاء العظماء.
أما عن الأدباء والمفكرين الذين أسعى لتعليق صورهم، فهم بين القديم والحديث والعالم والأديب، فأولهم وأبداهم لاشك عندي هو الشيخ الغزالي رحمه الله، أكثر الكتاب والأدباء تأثيرا في نفسي ولفظي، ولا يغيب عني صاحب ذلك القلم الذي أحببته وعشقته، والذي كان يتفجر إحساسا ورقة، أستاذ الجيل عبد الوهاب مطاوع، ولا تفوتني ابدا صورة العملاق أنور الجندي الذي كانت كتبه صحوة للوعي والفهم وكان قلمه رسول الحق والحقيقة، ولايمكن كذلك أن تغيب صورة العقاد عن أي حائط من الحوائط، ومن كتاب الغرب فلا يمكن لي أن أغفل صورة العبقري البائس دوستويفسكي، وسأطبع صورة الرافعي إمام البيان، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والعلامة محمد رشيد رضا، وعلي الطنطاوي، وعبدالحليم محمود، وهناك صور أخرى سأعلقها لا أحب ذكر أصحابها لأن تقديرهم لا تستوعبه بعض الأفهام القاصرة أو المضللة.. لكنني سأعلقها احتراما وتقديرا وحبا لأصحابها، فهو حائطي الذي لا ينازعني فيه أحد، وأعكس على قامته ما أهواه من مثل وشخوص.
ألا تراني بما أفعل قد بررت هؤلاء بعد موتهم، وأحاول تقديم شكر خاص لهم؟ بل هل تؤمن مثلي أن وجودهم باعث على الالهام؟
بالمناسبة، قل لي أنت ما تريد تعليقه من الصور؟