الحب ليس عيبًا ولا نقيصة، لأنه ذلك الشعور السحري الذي يتسرب إلى النفس دون إذن منها أو رأي، إذ يكون كسحابة موارة تهبط على قلب صاحبها، فتنقله من حال إلى حال.
بعض البيئات والمجتمعات والأفهام، ترى إظهار الحب عيب ونقيصة، بل وأحيانا فضيحة، وتظل تطارد الإحساس به وكأنه عار وشنار، فهبني اليوم قلت: إني أحب، لضجت الدنيا بهذا الاعتراف وطارت بذكره ركائب الركبان وتناقله الشعراء والأدباء وملأ دواوين الخُطب والأدباء، وبعض المجتمعات والنفوس، تراه سمة من سمات الحياة، وخصلة من طبيعة الإنسان لا يمكن الهرب منها والتفلت من أقدارها.
وهو ذات الاختلاف الذي نراه في البيئات الدينية وطبيعة المنتسبين إليها، فقوم من المتدينين جبلوا على الجِد والصرامة والتشدد، يرون هذا الحب لهو من نسائج الشيطان، فيقاومون أسبابه ويناهضون دواعيه، ويستغفرون منه وكأنه جريمة نكراء، وذنب عظيم، يخرم الهمم ويشين الرجال.
وقوم آخرون من أهل الدين، يفسحون له الحديث، ويرحبون به، ويرونه من سمات الإنسان التي لا يمكن إنكارها والتغاضي عنها.
وقد رأينا وعرفنا كثيرًا من شيوخ الدين الكبار، من أعلن عن دوامة الحب التي شغلت باله، ألهبت فؤاده، وكان آخرهم أعجوبة دهره ولوذعي جيله الدكتور الأزهري القرضاوي، الذي ذكر محنة حبه في مذكراته تماما كما ذكر بلاءه في دينه.
بل رأينا وسمعنا عن قصة الحب الملهبة بين الدكتور البيومي وهو من هو علمًا ودينا ومنارة في الدفاع عن الإسلام، مع الشاعرة الإيرانية التي شغلت باله وفؤاده سنوات وسنوات.
ولعل صاحب النصيب الأكبر في هذه الإشكالية، كانت من نصيب أديب الإسلام الأكبر (مصطفى صادق الرافعي) الذي ينال منه كل فريق من الفريقين مأربه، فالمتدينون المتشددون من أصحاب التجهم والتزمت، لا يعرفون غير الرافعي صاحب القلم الإسلامي الذي قهر طه حسين، وجلد كل منحرف من خصوم الدين.
أما الطرف الآخر.. فسحرتهم كتبه في الحب والجمال وخطاب العواطف، التي لم ينسج على منوالها وفلسفتها بخط أديب عشق وأحب كما أحب الرافعي، فكانت كتبه.. رسائل الأحزان وحديث القمر والسحب الأحمر وأوراق الورد، مقصد العاشقين، ومناهج الملتاعين.
وهي الصفحة الإنسانية المجهولة في عرف المتدينين، إذ لا يتصور كثير منهم أن يكون هذا السيف المسلط الممشوق على أعداء الإسلام، هو نفسه ذلك القلب العائم الهائم في دنيا الغرام.. ولعل الإشكالية ليست في الرافعي، وإنما فيهم أنفسهم حينما تنكروا لهذا الجانب الإنساني الكائن والملموس.
يقول العريان: إن مكتب الرافعي كان عليه ثلاث صور، صورة الشيخ محمد عبده و صورة الرياضي (صاندو) وصورة ملكة جمال تركيا في وقت مضى (كريمان هانم خالص) و عندما سأله العريان عن اجتماع تلك الصور، قال عن صورتي الشيخ محمد عبده وصاندو: هاتان قوتان تعملان في نفسي: قوة في روحي، و قوة في جسدي، فسأله عن الصورة الثالثة فقال: و هذه ما أجملها! انظر! ألا تقرأ شعرًا مسطورًا على جبينها.؟!
وأعتقد أن بعض المتدينين لو رأى صورة هذه المرأة على مكتب الرافعي، ذلك المكتب الذي صفت ونقرت عليه سطوره ضد أعداء الإسلام، فلن يقول له إلا أنه خلط عملا صالحا وآخر سيئا.!
لكنه واضح في بحر الحقيقة حينما كتب رسائله الغرامية في الحب والعواطف، فلم يخرج فيها عن هدي الدين والمعتقد، لأن حديث هذه العاطفة كما بين أحد الباحثين وثيق الصلة بالقرآن الكريم، فهو الغزل العفيف الذي يشعرك بارتفاع مشاعرك وسمو وجدانك، وهو النمط البياني الراقي الذي لا يمكن أن تسف معه إلى نزوة هابطة أو عاطفة رعناء.
وما أجمل وأروع ما نطق به قوله ليعبر عن حاله:
قلبي يحب وإنما ** أخلاقه فيه ودينه