هذا المقال أنصحك ألا تقرأه أو تحاول الاسترسال في سطوره إن كان لك عقل سطحي لا يستطيع تمييز الأمور، أو أن تكون ممن لا يهتدون إلى طبائع الأشياء، ولا يتسع وعيك إلى فهم نوازع النفس الإنسانية.
وإننا اليوم لا نصدم بعض الناس في شيء، أو نُظهر لهم ما كان خافيا عنهم، أو نفاجئهم بما كان مجهولا عليهم.. فما صنعوه من هذه الظنون التي سنكشفها اليوم، إنما صنعتها أوهامهم وسوء فهمهم، واعوجاج وعيهم.
لقد ظهر فينا تيار معروف بضيق أفقه، فعظم عنده أدب الأستاذ (مصطفى صادق الرافعي) وظن هذا التيار ومريدوه من كثرة ما يتردد اسم الرافعي، ظنوا أنه إمام من أئمة السلف، وأنه رمز من رموز الهداية والدين كابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي.
ولكن تلك الصورة التي صنعوها للرافعي لم تكن صحيحة، فالرافعي كان أديبًا يتمتع بغيرة عارمة على الإسلام، وبه تدين موروث، لكنه مع هذا أديب كغيره من الأدباء، يدخن السجائر، ويكتب في الغزل، ويحب المرأة.
ومن المذهل أن القوم تغاضوا عن حياة الرافعي التي تسوءهم، وقبلوا أن يكون إماما يروون أقاويله كأئمتهم المرموقين، نكاية وكيدا في الأستاذ العقاد...
لهذا الغرض وحده كان تعظيم الأستاذ الرافعي عندهم.
وأحب اليوم أن أتناول عنصر المرأة تحديدًا في حياة الرافعي، ولعلي أريد بهذا أو أعني به أتخذ كينونة المرأة في حياة كل أديب وكاتب، وكيف تكون المرأة مصدرا للإلهام والابداع في كثير من الأحيان.
وبعض الأدباء لا يستغني أدبهم عن المرأة، فهي مصدر الالهام ونواة الإبداع، وإذا فقدت المرأة يموت أدبه ويفقد حراراته ويضمر وهجه.
وهذه الحالة تعتري كثيرا من الأدباء ولكنها كانت عند الرافعي زيادة إلى درجة لم نسمع بها من قبل في حياة أديب.!
هكذا كان الرافعي وهكذا كانت نفسه وطبيعة روحة، كان يحب المرأة ويتخذ من هذا الحب مصدرا للإلهام الذي يتحول إلى وقود لقلمه.
لم يكن يحب المرأة لشهوة كما يحبها المتسفلون، ولكنه كان يعشق الجمال ويهيم بالحسن.
كان يرى أن كل مأربه من المرأة أن تخاطب روحها روحه، وهو المعنى الذي أكده بقوله: " وأنا على كل أحوالي انما أنظر الى الجمال كما أستنشى العطر يكون متضوعًا في الهواء، لا أنا استطيع أن أمسه، ولا أحد يستطيع أن يقول أخذت منى، ثم لا تدفعنى اليه، الا فطرة الشعر والإحساس الروحاني، دون فطرة الشر والحيوانية ، ومتى أحسست جمال المرأة ، أحسست فيه بمعنى أكبر من المرأة"
ومن فحوى هذا الكلام وهذا الذكر، أرى خلف الغيوم أناسا يتهومننا أننا نسيء إلا قامة أدبية أو بمعنى أدق قامة إسلامية، أو بمعنى أشد دقة حسب ما يتوهمون ويتمنون، قامة سلفية، وما كان رحمه الله على ما هم عليه في مناهجهم وفهمهم وأحلامهم، وعندي لو أن الرافعي كان على قيد الحياة اليوم، لكان أقسى الناس هجوما عليهم وعلى مدارسهم وأفهامهم وتخزيلاتهم.
فإن الرافعي كان آية من آيات الله في فهم الإسلام واستيعاب مقاصده، وكان قبل هذا إنسانا تعترضه كل ما يعترض البشر من طبع ورغبة، كان متدينًا وكان دينه يرده في هذه الطباع لتظهر في أسمى معانيا التي ربما لا يفهمها مع تدينه كثير ممن يحارون في سيرته.
والمرأة في حياة الرافعي تاريخ طويل مصاحب له منذ تفتقت موهبته، كانت المرأة مرتبطة في حياة الرافعي ما دام هو مرتبط بمواهبه وأدبه لا ينفك عنها ولا تنفك المرأة عنه.
نرى هذا منذ بواكيره، فقد كانت أول فتاة عرفها وخفق لها قلبه وهو ابن (21) عاما ولها ومن إلهامها كتب قصائد الغزل التي حواها أول دواوينه.
وحينما زار لبنان عام ١٩١٢ رأى فتاة أحبها وأغرم بها ومن أجلها كتب حديث القمر.
وحينما كان يصطاف في الإسكندرية تعرف إلى راقصة تعمل في الملهى الذي يجلس فيه، وكانت هي تجلس إليه وتحب الحديث معه وترتاح كما قيل إلى لقائه، وأما هو فأحبها أكثر من راحتها إليه وبفضل هذه الرقصة كتب الجمال البائس وكان من إلهامها.
"ويرجع الرافعي إلى طنطا، وترجع الراقصة إلى القاهرة ، رغم وجود هذا الحب وهذا الغرام كان التدين حاضرًا لا يغيب، ففي زيارة للرافعي للقاهرة، يطلب من سعيد العريان الذي صحبه، أن يذهبا إلى الملهى الذى تعمل فيه الراقصة، ويذهبان إلى هناك، ويرى الرافعي صورة للراقصة كبيرة تملأ جدار الملهى في شارع عماد الدين، ويقف الرافعي مترددًا أمام الباب، ثم يندفع الى العريان ويقول: ( أيليق بنا أن ندخل إلى مثل هذا المكان .. ؟ .. )
هكذا يتصارع الدين مع الرغبة إلى أن ينتصر عليها وعلى دوافعها.
ويعطيه صديقه "حسن مظهر" محرر مجلة ( اللطائف) صورة الراقصة بعد أن حكى الرافعي له قصتها، وتظل الصورة معه لا تفارقه سنين.
وقد حدث أن حكى الرافعي قصتها لتوفيق الحكيم، الذي يحكى أن الرافعي راح يصفها له وصفا شعريًا رائعًا ، وأخيرًا أخرج من جيبه صورة لها، ويعلق الحكيم على ذلك قائلا: قارنت بين الوصف الذي سمعت والصورة التي بين يدى، فکأننی استيقظت من حلم جميل .. يرحمه الله .. لقد كان شاعرًا .. »
لقد كان الرافعي يحمل هذه الصورة لأنها مصدر إلهام تلتهب له قريحة الأديب.
أما مي وهي الحب الأشهر في حياته وحياة كل الأدباء من جيله، فقد كان حب مي سببًا في كتاب أعظم أعماله الإبداعية وهي رسائل الأحزان - السحاب الأحمر - أوراق الورد.
كان حب مي هو الذي أثمر عن هذه الروائع التي لا نظير لها في دنيا الأدب والخيال.
ومما يؤكد أن هذا الحب كان حالة وجدانية تصاحب نفس الأديب لا يدرك معناها ولا وصفها إلا من عرف هذا الرباط الوثيق بين المرأة والإبداع، ما حدث في شتاء عام ۱۹٣٥ حينما كان في القاهرة مع تلميذه العريان، فقال الرافعي لتلميذه: "مل بنا إلى هذا الشارع، ووقف الرافعي أمام بيت، ورفع رأسه إلى فوق، ثم قال: " هذا بيتها، ولعلها الآن خلف هذه النافذة.. هل تصحبني الهيا غدا؟ .. نزورها ونتحدث اليها " ؟
وفي غد ذكر العريان الرافعي بما قاله أمس فقال : « يابني إنها ليست هناك.. إن (مى) التي أعرفها قد ذهبت منذ اثنتي عشرة سنة، أما هذه فأظنني لا أعرفها.. إنني أحرص على صورة الماضي الجميل، وما أحب أن تتغير صورته في نفسي » .
ورجعا إلى طنطا، وما لبث الرافعي حتى سمع إنها سافرت تستشفى في لبنان لعلة في أعصابها.
ومن عجب أن هذه الحالة التي نعتبرها من عجائب البشر، ونطالب فئة من الناس أن يستوعبوها، استوعبتها تلك الزوجة الطيبة التي آمنت به وبمواهبه، كما آمنت بإلهامه ونوزع وحيه، لقد حدثها عن ذلك الحب وأستأذنها فيه فأذنت له، لقد عرض عليها حاله، وأقنعها أنه حب بريء لا غرض منه ولا قصد، فإذا بها تأذن له، بل كانت تفعل أكثر من هذا حينما كانت تقرأ رسائلها ورسائله، ولعمري أي زوجة هذه، بل أي خطب تحمله قلب هذه الزوجة؟!
التي كانت بتسامحها اللامعقول قد أسهمت في إنعاش الأدب العربي بمثل هذه التحف النادرة.
هناك نظرة قاصرة تتهم الرافعي أنه ذو عين فارغة و(بصباص) للنساء فالرجل لو كان يحب امرأة واحدة لعذرناه في واحدة، أما أن يتنقل من امرأة لأخرى على هذا الشكل وبهذه الطريقة، فهذا رجل يهوى النساء ولا يعرف الحب الحقيقي.
وهنا لا أجد جوابا إلا ما جاوبت به ليلى بدر الدين في قولها وهي تصف هذه الحالة وتقول : "هما كده الادباء بيكونوا كده" ولله درها هي الوحيدة التي قالت ذلك وفهمت هذه التركيبة المعقدة التي لن يفهمها كثيرون.
بل أتذكر الأستاذ محمد التابعي أمير الصحافة وهو يقول : جاء علي وقت وكانت لدي القدرة على حب (40) امرأة في وقت واحد.!!!