غرام النفس وعشقها وهواها، وألفتها ودنياها، إنه الهوى الذي يأسر مهجة الإنسان، فيعيش له ويعيش به ويعيش فيه.
فوق الحب وأعلى من الحب وأعمق من الحب، ومن الجور أن نصفه بالحب، فالحب يمكن أن يستبدل بالكره، أما الغرام فلا يعترف بالكره ولا يمكن أن ينال منه البُغض.
مخطئ أنت لو ظننت أنني أحدثك عن عشق النساء، والهيام بالجميلات، فهناك في الحياة ما يمكن أن يتفوق على حبك للمرأة وانبهارك بالفاتنات.
والمرأة يمكن أن يزول حبك لها لو تعودته وألفته ليصير أمرا عاديا لا إبهار فيه ولا جديد.
لكنني اليوم أتحدث عما يهواه الإنسان في حياته من حرف ومهن وعادات ومواهب، يعيش طول حياته يعمل بها فلا يصيبه منها ملل أو كلل، ولا تجده أبدا حيالها في حالة الشبعان الممتلئ، أو الزاهد المكتفي.. يمضي في سحرها الوقت، ويتبخر في ثناياها الزمان، حتى تأتي اللحظة الأخيرة من حياة الإنسان فيظن أنه انفك عنها وانفكت عنه، فلا يلبث إلا أن يجد نفسه معلقا بها حتى الرمق الأخير.
قرأت مؤخرًا تلك المقالة التي كتبها الدكتور محمود وهو الإبن المكلوم في أبيه الراحل الجليل الدكتور حلمي القاعود، كتب الإبن يصف لنا هيام أبيه بالصلاة وولعه بها وتطلع نفسه إليها وذوبانه في حركاتها، وما أشد على ما قرأناه مما انسابت معه العبرات وانحدرت على وتيرته الدموع.
كتب الإبن يقول في أبيه:
كَانَ وَالِدِي الشَّهِيدُ الْمُجَاهِدُ حَلْمِي الْقَاعُودُ، رَضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، رَجُلًا تَعْلُو الصَّلَاةُ فِي قَلْبِهِ كَالنَّجْمِ الْوَهَّاجِ، تَتَرَبَّعُ عَلَى عَرْشِ أَوْلَوِيَّاتِهِ، فَلَا شَيْءَ فِي حَيَاتِهِ يَعْلُو عَلَيْهَا! كَانَتِ الصَّلَاةُ نَبْضَ رُوحِهِ، وَرَاحَةَ قَلْبِهِ، وَسَكِينَةَ نَفْسِهِ. مَتَى مَا تَرَنَّمَ الْمُؤَذِّنُ بِنِدَاءِ الْحَقِّ، أَجَابَهُ كَالطَّائِرِ الْحُرِّ، يَنْطَلِقُ مُلَبِّيًا، سَوَاءٌ أَكُنَّا فِي رِحْلَةٍ، أَمْ فِي مُحَاضَرَةٍ، أَمْ عَلَى طَرِيقٍ سَرِيعٍ تَمْتَدُّ فِيهِ الْمَسَافَاتُ! لَمْ يَكُنْ لِلظُّرُوفِ سُلْطَانٌ عَلَى عَزِيمَتِهِ، وَلَا لِلْمَكَانِ قَيْدٌ عَلَى إِيمَانِهِ.
وَفِي أَيَّامِ مَرَضِهِ الْأَخِيرَةِ، حِينَ كَانَتْ رُوحُهُ تَتَأَهَّبُ لِلِقَاءِ رَبِّهَا، كَانَتْ كَلِمَاتُهُ تَخْتَرِقُ قَلْبِي كَالسِّهَامِ: «مَشْ عَارِفْ أُصَلِّي يَا مَحْمُودُ... نَفْسِي أُصَلِّي يَا مَحْمُودُ»! كَانَ صَوْتُهُ يَحْمِلُ أَلَمَ الْعَاشِقِ الَّذِي يَشْتَاقُ إِلَى مَحْبُوبِهِ، وَلَكِنَّ الْجَسَدَ الْمُنْهَكَ يَخْذُلُهُ. فَكُنْتُ أُجِيبُهُ، مُتَمَسِّكًا بِرَحْمَةِ اللَّهِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ»، وَ«لَيْسَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ»، وَإِنَّ النِّيَّةَ هِيَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ.وَكُنْتُ أُذَكِّرُهُ: «حَضْرَتُكَ الَّذِي عَلَّمْتَنَا هَذَا الْكَلَامَ»! لَكِنَّهُ، بِقَلْبِهِ الْمُتَوَقِّدِ، كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقِفَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، يُنَاجِيهِ فِي صَلَاتِهِ.
فِي فَجْرِهِ الْأَخِيرِ، قَبْلَ أَنْ تَحْتَضِنَهُ غُرْفَةُ الْعِنَايَةِ الْمُرَكَّزَةِ، كُنْتُ أُصَلِّي، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ، يَنْصِتُ إِلَيَّ بِكُلِّ حَوَاسِّهِ، وَأَنَا أَتْلُو آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. كَانَ يُصَلِّي بِقَلْبِهِ، بِرُوحِهِ، كَأَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَعْبُدُ رَبَّهُ بِكُلِّ جَوَارِحِهِ، وَإِنْ عَجَزَ الْجَسَدُ. كَانَتِ الصَّلَاةُ رُوحَهُ، وَرُوحُهُ صَلَاةٌ
وصدق القائل: للناس فيما يعشقون مذاهب
وهو العشق المتأصل في أعماق النفس وتلابيب الذات، فلا يلبث إلا أن يظهر بقوة في اللحظات الأخيرة، لحظات الفراق، فلا تدري أتلبّس بالنفس أم تلبست هي به؟
كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وهو في مرض الموت يملي على التلاميذ مسائل الفقه، فلما طالبوه أن يستريح رد قائلا: لو بقي من عمري لحظة، لأحببت أن أجعلها في شئ ينفع المسلمين.
أحب الفقه وعاش له وأبى أن يفارقه في دقائقه الأخيرة.!
كان الصحفي الكبير الأستاذ "علي أمين" في مرض موته، وفي ساعات الغيبوبة التي سبقته، زاره الدكتور السيد أبو النجا، وكان مشفقًا عليه إذ لا يريد أن يراه في هذه الصورة المؤلمة، لكن أخوه مصطفى أمين أصر على أن يجلس السيد أبو النجا بجواره إلى أن يفيق علي ويراه، لأنه كان يحب أن يرى بجواره، إخوته في العمل الذين بنوا معه هذا الصرح الصحفي الكبير، وما إن أفاق علي أمين رحمه الله، والتفت إلى جانبه ورأى الدكتور أبو النجا، حتى ابتسم وقال له: "دكتور سيد، كم توزيع الأخبار الآن؟" وانسحبت الكلمات في حلق الدكتور السيد أبو النجا، حبستها الدموع، ولم يستطع أن يسعفه بالإجابة، وعاد علي أمين إلى غيبوبته ولم يسمع الإجابة إلى أن فارق الحياة.
كانت الصحافة قلبه وعشقة وكانت آخر ما جاد به في اللحظات الأخيرة من حياته.
سُئل الأستاذ مصطفى أمين متى تعتزل الكتابة؟ فقال: "إنني أريد أن أموت والقلم في يدي، فأنا أكتب كما أتنفس. إنني أتوقف عن الكتابة عندما أتوقف عن التنفس."
وسألته مرة إحدى الشابات: "وهل معنى ذلك أنك ستكتب دائماً؟" فقال: "سأستمر في الكتابة حتى يقصف قلمي، وعندما لا تجدين مقالي، فاعلمي أني إما مت أو ماتت الحرية في بلادي."
وفي يوم من الأيام، أمسك الأستاذ العقاد بقلمه، وعندما أراد أن يكتب، وجد يده ترتعش ولم يستطع أن يكمل الكتابة، وهنا حزن كثيراً لأن ذلك اليوم هو اليوم الذي كان يخشاه، لأن معنى أن يقف قلمه أنه يموت. ولم يلبث الحزن أن عصف بقلبه، فرحل بعدها بأيام، مات بعد أن توقف قلمه ولم يعد قادراً على حمله.
وهنا أتدري من هو المجنون؟
المجنون هنا هو الذي تأكل النساء عقله ليهبهن عشق اللحظة الأخيرة من دنياه.. نعم سيكون تماما كهذا العاشق المجنون الذي قص علينا خبره صاحب طوق الحمامة، حينما وجد امرأة فاتنة أمام بيته تسأل: أين الطريق إلى حمَّام منجاب؟، فغرم بها وساقه العشق خلفها، حتى أفلتت منه بحيلة ولم يجدها فَزَاد هيمانه، وَاشتد هيجانه، حتي صار في الطرقت منشدا :
يارب سائلة وقد تعبت* أين الطريق إلى حمَّام منجاب
وَلم يزل كذلك حتى كَانَ من أمره أنه لما نزل بِهِ الْمَوْت وجاءت ساعة احتضاره ، فَقيل له قل: “لَا إِلَه إِلَّا الله ” .. فلا يستطيع، إنما جعل يقول:
أَيْن الطَّرِيقُ إِلَى حمَّام منْجَاب؟