هل خلق هؤلاء الناس من فولاذ فصارت لهم طبيعة غير طبيعتنا، هل وُجدوا من طينة مغايرة لطينة أمثالهم من البشر، حتى يخرجوا بهذا الجَلَد والصمود بل وهذا الشموخ؟!
نعم إن هذا ما يمور به عقلي حينما أتأمل جسارة واحد منهم في مواقفه وتصرفاته التي لا يقوى عليها كثير من الناس، فالمرء دائمًا ضعيف هذيل أمام الإغراء تارة، وأمام الخوف تارة أخرى، ومعنى أن يوجد رجل لا يعبأ بكل هذه المكاره ويتصدى لها بقوة ويقف في وجهها صامدًا أبيًا، فهذا لا شك عظيم من عظماء الحياة.
في التاريخ رجل شريف يعيش في الدنيا كأي إنسان ويؤدي وظيفته كأي موظف، لا يدري به أحد ولا يعبأ بذاته غيره، حتى يأتي موقف واحد ليكتشف الناس أنهم أمام جبل من الصمود وباسل من أولئك يعشقون الحرية والشرف والنبل، وتظهر لمحة المبادئ التي يعتنقونها ويؤمنون بها لتساوي لديهم معنى الحياة، فإذا فقدوا مبادئهم فقدوا حياتهم ولا قيمة بعد فقدها للحياة.
(محمود رشاد) اسم مشرف في تاريخ القضاء المصري، فعلى أي شيء كان هذا الشرف وهذا الفخار؟
كان القاضي محمود رشاد رئيسًا لمحكمة مصر الابتدائية الأهلية، ورغم هذا المنصب القضائي المتميز إلا أنه أعلن استقالته منه وعدم رغبته فيه، فلماذا يا تُرى كان هذا الرفض والعزوف؟
قدر لهذا القاضي أن يكون هو الحكم في قضية شغلت الرأي العام في ذلك الوقت وهي قضية الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس تحرير جريدة العلم بسبب موقفها السياسي ومهاجمتها للإحتلال والخديوي وبلاطه وحاشيته في أغسطس عام 1908، واتهموه فيها بنشر أخبار كاذبة بل وإهانة وزارة الحربية.
كانت فرصة لكل هذه الجهات الحكومة ورجال الخديوي ومن قبلهم الاحتلال البريطاني أن ينكلوا بجاويش حتى يكون حبسه عبرة لكل من يتجرأ مثله عن التطاول على هذه الجهات..
وتوقع الجميع أن تصدر العقوبة على الشيخ جاويش لكن القاضي النزيه حكم بالبراءة من تهمة نشر الأخبار الكاذبة وفي القضية الثانية حمله غرامة 20 جنيهًا فقط، ولما صدر الحكم استأنفت النيابة لقلة العقوبة، ولكن القاضي رشاد فاجئهم بالحكم الثاني حيث برأ جاويش من التهمتين.
كان هذا الحُكم وموقف رشاد قد أزعج الحاشية الخديوية والإنجليز معًا، فلجأوا إلى الضغط على القاضي حتى ينفذ مأربهم ويتراجع عما أصدره من أحكامه، وهنا يتحرك المارد الجبار صاحب المبادئ والعزة والكرامة، فرفض رغبتهم ولم يمتثل لأوامرهم وقدم استقالته وفضل أن يبتعد عن هذا المناخ الذي يعج بالفساد ويضغط على القضاء.
وكان لهذا الموقف عواقبه الجسمية على الحكومة التي خشيت أن يفضحها القاضي النزيه حينما يروي للناس أنه استقال بعد محاولات الضغط لتغيير نص الحكم القضائي، وطلبوا من سعد باشا زغلول وزير الحقانية وقتها سرعة التحرك لتدارك الأمر بالضغط على رشاد وإقناعه أن يعود إلى عمله وينسى ما عُرض عليه أو طلب منه، لكن القاضي أصر على الرفض، وأمام هذا الرفض ارتعدت الحكومة أكثر وأكثر، تخاف أن يروي الرجل شيئًا من تحريضها على جاويش وهو ما يعني عدم نزاهتها وتخاذلها في موقفها الوطني، ففكرت أن تُغري القاضي برتبة الباشوية، وهي رتبة يسيل لها لعاب الكثيرين، وإذا بالرجل الشريف الأبي يفاجئهم بما يدهش الألباب فيعلن رفضه الشديد لهذه الرتبة العَلِية، بل هددهم بقوله: "إنهم إن لم يكفوا عن هذا سأرحل وأترك البلاد"
ثم كتب الرجل عن رفضه للباشوية وعلل ذلك بكلام رجل يعشق الحرية والبساطة والرضا والإدراك العميق للسعادة الحقيقية في هذه الحياة فقال: "كيف أقبل هذه الرتبة وأقيد نفسي، كيف أتنازل عن حريتي ولا أتمكن من ركوب التِرام في الهواء بين الناس في الهواء الطلق، ثم إن الباشوية ستحرمني أكل السمك اللطيف والطعمية اللذيذة بدكان الحاج حسين بشارع كلوت بك".
إننا أمام رجل عجيب مختلف، ورجل ذو موهبة خارقة في التعامل مع المبادئ، إذن كان من الممكن له أن يوفق بين الأمرين ويقبل الباشوية طالما اعترفت الحكومة بخطئها واحترمت أحكامه القضائية، ولكن العجيب في هذا الرجل ومع هذا الدرس أن احترامنا له صار في دهشة، فعلى أي شيء نقدره، على موقفه الوطني من الشيخ جاويش، أم على عِزة نفسه، أم على تعاليه على المناصب والرتب، أم تصالحه مع ذاته ورضاه العجيب وإيمانه بالحرية وإدراكه لمعاني السعادة الحقيقية؟! أمور كثيرة جعلت من الرجل عظيمًا من العظماء.
بقي أن أُشير إلى احترامي الشديد للحكومة، فالحكومة التي تخاف على سمعتها وتحافظ على شرفها أمام الناس ولو ظاهريا هي حكومة محترمة مقدرة.